الحج تسليم وليس التسليم حُجّة!

مقال منشور في مجلة المجتمع الكويتية


من أظهر القصص النبوية المرتبطة بمناسبة الحج، قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام في موقف الذبح، وقصة زوجه السيدة هاجر عليها الرضوان في حادثة زمزم والسعي بين الصفا والمروة، فهاتان القصتان نموذجيتان في معاني التسليم لله تعالى، ولذلك فموسم الحج من المناسبات التي تستدعي هذا المعنى بقوة، لكنه على ذلك يظل ملتبسًا في تصور ثير من المسلمين: فما معنى التسليم لله تعالى عمليًّا؟ وهل يتعارض مع الحزن والتألم؟ أو هو مرادف للتخاذل والتقاعس؟ هذه الأسئلة التي تهدف السطور التالية للجواب عنها:

التسليم لله تعالى نوعان

استسلام قهريّ اضطراري: من حيث كونك مخلوقًا لله تعالى مملوكًا له مأمورًا بأمره، وهذا يجري على كل مخلوقات الله تعالى، يستوي في ذلك من آمن أو كفر، ومن رضي أو سخط.

تسليم شرعيّ طواعية: من حيث كونك مؤمنًا آمنت بالله تعالى ورَضِيته ربًا، وعلمتَ صفاته وفهمت عنه سننه، فأسلمتَ إليه نفسك وأمرك ثقة به وطمأنينة إليه، فهذا تَخَلٍّ إرادي واعٍ مقصود عن إرادتك، لأنك تُودِعها في إرادة أعلى، هي إرادة ربّك الذي آمنت به وارتضيتَه إلهك، وتأمل في قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله تعالى ۗ وَمَن يُؤْمِن بِالله تعالى يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَالله تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (التغابن: 11):

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله تعالى: أي بعلمه وقضائه،

وَمَنْ يُؤْمِنْ بِالله تعالى: ومن يُصدّق بالله تعالى فيعلم أنه لا أحد تصيبه مصيبة إلا بإذن الله تعالى،

يَهْدِ قَلْبَهُ: يوفِّق الله تعالى قلبه بالتسليم لأمره والرضا بقضائه.

نماذج عملية من مواقف الأنبياء

ولنتفكّر هُنيْهَة فيما وردنا من أحوال أبناء الأنبياء عليهم السلام، والأنبياء هم أكرم الخلق على المولى:

منهم مَن أُخرِج ابنه من ذريّته ودينه ولم يؤمن: سيدنا نوح عليه السلام.

ومنهم من لم يُرزق الذرّية: سيدنا إدريس ويحيى ويوسف عليهم السلام.

ومنهم من مات ولده بين يديه وهو يبكيه: سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.

ومنهم من كُتب له غلام حليم وخَلَفه في النبوّة: سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل عليهما السلام ومن بعدهما سيدنا إسحاق عليه السلام.

ومنهم من غُيّب عنه ابنه سنوات لا يعلم من حاله شيئًا: سيدنا يعقوب عليه السلام.

فهل حصل أن قارن نبي حاله بحال نبيّ آخر، أو قال: «يا ربّ لِمَ؟!»، حاشا وكلّا!

بل إنّ خليل الله إبراهيم عليه السلام، آتاه الله تعالى الولد على كبر، وبشرته به الملائكة، وبلغ معه السعي أي كَبِر أمام ناظريه، وكان غلامًا حليمًا رشيدًا، وإذ بعد كل تلك الصحبة تأتيه الرؤيا بالذبح! كيف كان الوقع على الأب الرحيم؟ هل انتظر رؤيا ثانية؟ هل دعا الله تعالى أن يكشف البلاء أو يغيّر الفداء؟ بل كان تصرّفه تصديقًا لكونه خليلًا لله تعالى حقًّا: الله تعالى أَمَر فسَمعًا وطاعة، لم يطلب تبريرًا ولا توكيدًا، وماذا كان ردّ الابن حين فاجأه أبوه بقوله: {إني أرى في المنام أنّي أذبحك}؟ هل بكى أو استنكر؟ أو طلب منه أن يتريّث ويتأكد؟ بل كان ردّ اليقين: (يا أبَتِ افعل ما تُؤمَر)، فقد أدرك أنه “أُمِر” بهذا، وكلاهما لله تعالى وإلى الله تعالى، فإن كان الله تعالى أمرك بالتصرف في مُلكه بشيء فافعل ما تُؤمر بغير سؤال: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين)، وبدأ ما بدا أنه ابتلاء شنيع أو مأساة مروّعة – بتصورنا اليوم – والأب قد حنَى رأس ابنه على الصخرة كما يفعل للشاة قبل ذبحها، ورفع السكين وهَمَّ حقًا وصِدقًا أن ينفّذ، فهنالك قدّر الله تعالى أن الامتحان انتهى! لماذا؟ {فَلَمَّا أَسْلَمَا}، هذا مفتاح الامتحان كله، أن يكون الله تعالى أحب إليك مما سواه، كل ما سواه، حقًا وصدقًا: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات: 105).

ومن النماذج التطبيقية لأدب التسليم لله تعالى، ما حكاه لنا القرآن الكريم من قصة السيدة مريم عليها السلام، تأمّل لما جاءها سيدنا جبريل عليه السلام يُبشّرها بهبة سيدنا عيسى عليه السلام: {قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (مريم: 20)، لقد جاء سؤالها على وجه العجب من جهتها، لا على وجه الاستبعاد عن قدرة الله تعالى أو الاعتراض عليه؛ لأنّ تصورها لحضور غلام بُنِي تلقائيًا على ما هو معتاد من اجتماع ذكر بأنثى أوّلًا، وذلك لم يقع معها، فلا هي بذات زوج ولا يُتَصوَّر منها الفجور، فانظر ماذا كان جواب الله تعالى لها: {قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 21]، وفي موضع آخر: {قالَ كَذَٰلِكِ الله تعالى يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 47]، لقد بدأ الجواب بالمشيئة الإلهية وانتهى بها في الآيتين، أي أنّ أمر الله تعالى مقضيّ واقع لا محالة لا يَنتظِر إذنًا من أحد، رَضِي مَن رَضِي وله مِن الله تعالى الرضا، وسَخِط مَن سَخِط وله مِن الله تعالى السُّخط، وفي إحدى الآيتين فقط ذُكر لها وجه الحكمة صريحًا، وبُيِّن لها المراد من نفخ تلك الروح فيها: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا}، وذلك لطف من الله تعالى وإيناس لقلبها، لكن تَعُود الخاتمة فتؤكّد {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا}، فكان استفهامها عليها السلام استعلامًا بأدب، ولذلك كان فعلها بعد ذلك تسليمًا بإذعان، رغم وطأة الأمر عليها حتى تمنّت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} [مريم: 23] وذلك لأنها “.، عَرفَت أنها ستُبتلى وتُمتحن بهذا المولود الذي لا يَحمِل الناس أمرها فيه على السَّداد، ولا يُصدِّقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنّون عاهرة زانية.، ” [تفسير الطبري]، إلا أنّ الله تعالى صبَّرها وواساها، وهي عليها السلام استجابت بالامتثال والصبر لأمر الله تعالى.

«إنَّ الطبيب الحكيم لا يجَاري العليل، ولكنَّه ينظر إلى العلَّة، وإنَّ الله تعالى سبحَانه -وله العزَّة- لا يبالي باصطلاح النَّاس، ولكنَّه ينظر مصلحتهُم حين يعطي ويمنع، فليسَ في الأرض فقير قَط إلا عند نَفسِه، ولو اطَّلع كلّ إنسان على الغيب لَمَا اختارَ إلا ما هو فيه» (الرافعيّ، حديث القمر).

التسليم باعث على القوة وليس مرادفًا للتخاذل

تسليم العبد لله تعالى في أمره لا يعني الاستسلام الانهزامي للمُجريات ذاتها، بنفسيّة متخاذلة لا مبالية بالعواقب الدنيوية والأخروية معًا، لأنّ صاحبها فاقد للأمل في العدالة السماوية كما الأرضية، فكلّ شيء عنده سِيَّان! بل هو الباعث على القوة والثبات وحسن العمل، ذلك أنَّ تسليم الرضا لله تعالى يعني سلامة قلب المسلم وصدره تجاه ربه، وفهمه لطبائع هذا الوجود وسننه وغايته كما أراده الله تعالى وإذعانه لذلك، فلا يسخط على كون هذه الدار دار اختبار ولا على أنّ الله تعالى خلقه، أو اختار له زمانًا وسياقًا غير الذي كان يتمنّى.

ما العمل بعد التسليم؟

والخلاصة أن الله تعالى المُقدّر وعلى أنّ العبد مسؤول عن عمله، بناء عليه، فالسؤال الذي يجب أن يشتغل به المؤمن ليس كيف تفعل بي أو لماذا تَقدُر على كذا وكذا! بل:

كيف أتعامل مع ما يصيبني في السراء والضراء على السواء؟

ما تكليفك لي يا رب أو ما مرادك مني يا رب في هذا التقدير أو ذاك؟

كيف أُرضِي الله تعالى عني في هذا المقام؟

كيف أتعامل مع أمر الله تعالى كما أمَرَ الله تعالى؟

فإذا لم تكن تعلم الجواب في موقف معين فتعلّمه، ثم اشتغل بما عليك شرعًا وأدبًا، وارجُ وجه الله تعالى واخشَ غضبه، وأحسن الظن فيه بما هو أهله، ولا تلتفت بعد ذلك لشيء.

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑