لا أجد وقتًا ولا تتبقى طاقة!

“لا وقت!” ، “لا أجد وقتًا” ، “لا تتبقى طاقة”
هذه من الشكاوى الدائمة التي يعاني منها كل ذو هدف أو طموح جاد؛ فأشغال المعاش اليومية لا تكاد تترك لصاحبها في اليوم فسحة خلوة بنفسه إلا ساعات معدودة، يصل إليها بنفس مكدودة، لا طاقة فيها إلا لبعض التقليب في وسائل التواصل والفرجة والدردشة إلى حين وقت النوم.

الحل العملي لهذه المعضلة ببساطة يكمن في الخطوات التالية:

قراءة المزيد: لا أجد وقتًا ولا تتبقى طاقة!


** استثمار القدر المتاح وقت إتاحته على حاله
إذا قلنا إن مجموع “الأوقات البينية” المنفقة في التقليب العشوائي في وسائل التواصل والفرجة يصل لنصف ساعة فحسب في اليوم، فهذه حوالي 4 ساعات من الفراغ الأسبوعي؛ إذا واصلت الحسبة شهريًّا ثم سنويًّا، وإذا دققت في مجموع الأوقات البينية التي تزيد في اليوم على نصف ساعة، سيتضح أن عندك ذخيرة من الوقت المتاح بالفعل! كل المسألة أن شكل إتاحته ومقدار توزيعه على غير ما يتخيل تصورك “النموذجي”.
من جهة أخرى، لا يعكف غالب الناس على نشاط بعينه أكثر من نصف ساعة متصلة، فإذا كنت ستخطط لتقسيم إنجاز هدف ما على أيام الأسبوع لوجدت أن محصلة وقت “التفرغ” المطلوبة يوميًّا متقاربة حقيقة!

ومن بديع مقولات مصطفى صادق الرافعي: “وإن يومًا باقيًا من العمر هو للمؤمن عُمرٌ ما ينبغي أن يُستهانَ به”. ومثل ذلك يقال في محصّلة تراكم “السويعات” المهدرة يوميًّا!



**  التهيئة النفسية
إذا أخرجنا مقدار الإرهاق البدني الحقيقي من المعادلة، فمتلازمة “الفناء” والإحساس بنفاد الطاقة الوجودية تجاه أي عمل جاد هي في الأساس توهّم شعوريّ وحيلة نفسية. فهي تبرر اتباع الهوى العبثي دون الشعور بذنب إهدار وقت أو طاقة أو عمر، لأن الوقت بالفعل نفد والطاقة نضبت والعمر ممتد بسوف وليت ولا بد أن يتغير الحال يومًا ما فتحلّ على صاحبه البركة في الوقت والطاقة والعزم والهمّة!
وأول تفنيد لهذه الخرافات أن الوقت بحد ذاته لا يغيّر شيئًا من طبائع النفس وما عوّدها عليه صاحبها، فمن عوّد نفسه اتباع الهوى السائم في “الأوقات الصغيرة” أول من يهدر الأوقات الكبيرة في الترنح والتردد والتكاسل والعبث .. كلها فروع لنفس الآفة، فالوقت هو ضحية مستخدمه وليس الجاني!

ثانيًا، الخروج من هذه الدوامة يكون ببساطة بتهيئة نفسية أو عقد اتفاق مع نفسك أن تخصص الوقت البيني الذي تعرف مسبقًا أنه يكون متاحًا لمدة كذا في توقيت كذا، تخصصه في عمل ما، أيًّا يكن هذا العمل، المهم أن يكون مقصودًا بخلاف الدوران العبثي واللهو السائب. لأن الإقدام على مختلف الأعمال بقصد وعمد أول التربية الواعية وملك زمام النفس، في مقابل “ترك” النفس لملابسات الظروف بما يشعر صاحبه أنه مفعول به لا حول له ولا قوة في تصريف نفسه!

فالماكثة في البيت مع أولادها تعرف لنفسها أوقاتًا يمكن أن تخلو فيها لنفسها، ولو كانت عشر دقائق، تقرر أن تخصصها لورد ما كذكر أو مطالعة أو استماع لمادة. والعائد لبيته بعد خروج يعرف أن له ساعة مثلًا قبل النوم يخلو فيها للتقليب في الهاتف، فيقرر أن يخلو فيها لشأن آخر، أو حتى يقرر أن يستمر في خلوته بالهاتف إذا شاء! المهم أن يدرك صاحب القرار أنه صاحبه! وأنه المتحمل لمسؤوليته وعاقبته، ويكف عن العزف المنفرد على نغمات الأسى والمظلومية والتجني من الحياة والأحياء!


 
**  التركيز في خطوة الوقت لا خط النهاية

عندما ذكرت مثالًا في إحدى الندوات أن أول مدوّنة افتتحتها وأنا في المرحلة الجامعية كانت محصلتها قرابة الألف تدوينة، كان رد الفعل الأول استهوال كم التفرغ والتركيز والانقطاع والمثابرة … والحق أنني كنت ببساطة أدوّن شيئًا لمدة 5 دقائق يوميًّا قبل الخروج أو عند العودة. ولم يكن في بالي رقم معيّن لبلوغه أو تصور لخط انتهاء أصله فأرتاح وأعتبر نفسي أنجزت! بل كنت أستمر في القيام بما علي القيام به ما قام في نفسي شعور المسؤولية تجاهه، ولا أعرف أنني فرغت حتى أفرغ حقيقة ويقعد ما قام! وعلى نفس المنوال بلغ كتاب الأسئلة الأربعة – مثلًا – في طبعته الأولى ألف صفحة ووصل للألفين في الثالثة، على مدى 5 سنوات تقريبًا! ولو أنني قبل البدء في تاليف كتاب استغرقت في التفكير في الانتهاء والخلاص وكمّ الوقت – بالأحرى السنوات – التي سيستغرقها إتمامه، لانقضى نفس الوقت في التحسر والتردد والقلقلة والذنب وغيره من مشاعر دوامة الهروبية واللف حول الطموح عوضًا عن الشروع فيه!

إن المانع الحقيقي من الإنجاز يكمن في هذا التهويل، الذي منبعه مدّ العينين لخط النهاية قبل البداية، والاستعجال على الانتهاء قبل البدء! هذه متلازمة نفسية “الخلاص” التي – عجبًا – لا تعين صاحبها على الخلاص من أي عمل ولا التقدم في أية رحلة، بل تزيده لصوقًا في مكانه وعجزًا عن التخلص من أحماله. ركّز في خطوة الوقت، وابنِ على الخطوة أختها، حتى تصل بك من تلقاء نفسها ونفسك إلى نهاية طريقها، سواء تمثلت النهاية في إتمام منتج معين أو الفراغ من مادةّ، أو في ترك الهدف والطموح بالكلية بعد أن اتضح لك عدم صلاحك له أو صلاحه لك. هذا الاتضاح في حد ذاته إنجاز!


** تمهّل واتئد

لفظة الإنجاز من الألفاظ الثقيلة على مسمعي بسبب الدلالة “الإدمانية” التي حمّلتها بها مستوردات التنمية البشرية ومنهجيات استغلال الأوقات، فالعبرة بحشد الكم على الكيف، أو الدلالة “المزاجية” التي حمّلتها بها مستوردات تالية رأت أن جوهر الإنجاز يعني التراخي في الكيف حتى يتمدد الكم الصغير سنوات مديدة! والوسط بين هذين التُّؤَدَة أي التمهل والتأني، فبدل أن تُضطر لعودة أدراجك للوراء لأن إحدى المراحل لم تتمْ بإتقان، سِر متمهلًا من البداية، بغير تكاسل أو استعجال. وفي سنن الترمذي: “السَّمْتُ ‏ ‏الْحَسَنُ ‏ ‏وَالتُّؤَدَةُ ‏ ‏وَالِاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ”. إن الرحلة المقطوعة للوصول لهدف ما هي جزء لا يتجزأ من “عملية الإنجاز”، إذ حتى لو لم تبلغ الهدف على ما كنت ترجو وتتخيل، ستكون كل خطوة في الطريق مثمرة بذاتها لأنها علمتك شيئًا وأكسبتك خبرة، ذلك إذا كنت منتبهًا ويَقِظًا كفاية لذلك.


** الانقطاع للعمل وقت عمله

الانقطاع يعني أن الوقت الذي ستقتطعه لأي عمل عامة، مهما صغر أو قل، ينبغي أن يكون خالصًا له ليس فيه أي شواغل أخرى، من رد هاتف أو متابعة رسائل وخلافها من آكلات الوقت وجودة الأداء. لذلك اجتهد حين تحدد أوقات فراغك أن تفرغ فيها حقًا. ومن يستهين بنفع عشر دقائق أو يستصغر ساعة يوميًا، ما ذلك إلا لأنه لم يجرب هذا المفهوم، وإلا لانقلب الميزان تمامًا. جرب أن تقرأ صفحة من كتاب وأنت تعبث بمختلف الشواغل بين كل سطر والذي يليه، أو تنقطع لإتمام الصفحة دون أية مشغلة أخرى، وقارن الوقت المستغرق لنفس العمل ونفس الكم! الانقطاع باختصار يعني أحسن استثمار لما هو متاح بالفعل من أوقاتك، وهذا الذي يجعلك تشعر ببركة الوقت ونمائه. أما أن تكون بين بين فأنت تهدر وقتك وتشتت جهدك وتجني على وقتك المشغول والمتاح معًا!


مقالات مرتبطة

إشكالية الكمّ والكيف في التخطيط والتطبيق

التعلق بالوصول لا بالمسير

الاشتغال بثمار المستقبل عن غراس الحاضر

رأي واحد حول “لا أجد وقتًا ولا تتبقى طاقة!

اضافة لك

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑