هل لك ولد صالح يدعو لك؟

“إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له.” [مسلم]
من بين المعاني المشروحة لهذا الحديث، معنى وقفت عليه بالذائقة بعد وفاة #أبيعبدالرحمن رحمه الله تعالى، وهو سبب اختصاص الولد بالذات من بين الأرحام والمعارف، لأنه أقرب الأرحام لوالديه وألصقهم به، وأولهم وأكثرهم انتفاعًا منهما إذ هو ربيب إحسانهما، فلوعته لهما من الصدق والحرارة بحيث يفيض منه الدعاء بحرقة لا تكلف فيها، ويتجدد ذكرهما في نفسه بتلقائية وطواعية لا حاجة لرقيب عليه فيها.


وإذا لم أكن وقفت على جهة تربية الأبناء بعد، فقد وقفت على جهة التربي والبنوة نفسيهما، وعايشت أثر الوالد حين يصلح في نفسه على صلاح أبنائه وعمق صلته بهم، في حياته وبعد وفاته. ولما تأملت في أثر وفاة أبي عليّ، وعلى صلتي المستمرة به بحمد الله تعالى، وجدت أنه ليس أعظم مصابًا في سياق الوالدية من والد أصيب في ولده (أي مات له ولد)، إلا والد أبتر الذكر على ما له من ولد (أي لا يذكره ولده بعد وفاته ولا يُحيي ذكره).


إن غالب الآباء والأمهات يعتقدون أنهم حقيقون بمحبة الأبناء وإجلالهم بمجرد كونهم آباء وأمهات أنجبوهم. والحق أن الله تعالى أوجب للآباء والأمهات البر من الأبناء – لا المحبة – بموجب إنجابهم فحسب، بغض النظر عن إحسان منهم أو تفريط بعد ذلك (ولا ينفي ذلك أنهم محاسبون أمام الله تعالى عمن ائتمنهم عليهم)، فعلى كل ولد مسلم أن يبر والده ولو كان غير مسلم. لكن البر شيء والحب شيء آخر، وحسن المعاملة العابرة شيء وبذل أسباب الوصال شيء آخر، وإظهار الاحترام شيء وإضمار الإجلال شيء آخر … وهكذا. وذكر الابن لوالديه سواء في حياتهما والأهم بعد مماتهما يمكن أن يكون بدافع الفطرة، أو بدافع الإنسانية، أو بدافع العصبية، أو بدافع الواجب، وكلها دوافع لا طاقة لها على الدفع إلا زمنًا يسقط الذكر بعدها. وحده الحب الصادق والعميق يفرد للمحبوب أعز الذكر في كتاب الخلود، فلا يطوله نسيان ولا يطويه جحود.


ولو فقه الوالدان عظَم المنافع المترتبة على الوالدية الصالحة، لأدرك كل والدين أنهما محتاجان لصلاح الذرية لا لمجرد الذرية فحسب، ولحب الأبناء القلبي لا برهم السلوكي فحسب. لو فقه الوالدان لأدركا أنهما بحاجة لأبنائهم كما يعتقدون يقينًا أن أبناءهم بحاجة لهم، وأنهما كذلك منتفعان على الحقيقة من تلك الصلة لا نافعان فحسب، وأنهما آخذان منها فوق ما يعطيان فيها وإن كان نصيبهما مؤجلًا، إذا أحسنا فيها بصدق وجدية وعن علم ابتغاء وجه الله تعالى. ولذلك فأول ما يجب أن يتعلمه الوالدان قبل الإقدام على الوالديّة، تعلمًا شرعيًّا وتربويًّا، هو حقوق الأبناء وكيف يكون برهم، ثم حقوق الوالدين وكيف يكون برهم، حتى لا يجوروا على الأول ولا يشتطوا في تصورات مثالية للثاني.


وأي حب ينشأ في قلب إنسان درجتان: حب هوى أو فطرة أو غريزة، وحب استحقاق وأهلية. الدرجة الأولى متعلقة بالمُحب، فهو يحب محبوبًا لشيء في نفسه هو من حاجة أو ميل، والدرجة الثانية متعلقة بالمحبوب الذي يستحق الحب بناء على ما فيه من خصال أو جوانب تملأ عين محبه ونفسه. فإذا جئنا نطبق هذه القاعدة على محبة الوالدين، فعلى الوالدين أن يدركا أن محبة الولد لوالده جزء منها فطري وجزء كسبي، والذي يعمّق الصلة بينهما ويوطد أركان مكانة الوالد في قلب الولد هو الكسبي. وأولى أسباب اكتساب أو استحقاق الوالد لمحبة ولده أن يكون صادقًا مع نفسه، قدوة في نفسه، وأن يتعهد نفسه قبل أو مع أبنائه بالتربية ولا يستكبر على ذلك أو يستغني. وأولى مداخل الإساءة من حيث إرادة الإحسان، والتي تهبط بقدر الوالدين في عين الأولاد وقلوبهم شيئًا فشيئًا، أن يصرّ الوالدان على توجيه الأبناء لأدب هم مخالفوه، ولخير هم زاهدون فيه، ولحسن هم معاكسوه؛ ويمطرونه بأوامر في بيئة مخالفة لغالب ما يأمران به، وهما أول المخالفين لأمر نفسيهما، وأول الزاهدين في المعالي لنفسيهما!


وإذا كان المولود يولد على الفطرة، فالولد مفطور على حب الله تعالى في والديه، أي في آثار صلاحهما وانعكاس حبهما له تعالى. فهو يتشرب منهما ذلك الصلاح والحب من جهة، ويحبهما لأجله من جهة ثانية. وحتى إذا ابتلي الوالدان بعد كل جهودهما التربوية في ولد لهما لم يستقم على أمر الله تعالى، فثوابهما عند ربهما تبارك وتعالى محفوظ، بل وقدرهما ومكانتهما عند ذلك الولد كذلك محفوظة لا يملك أن يجحدها أو ينكرها أو ينعي عليهما ما هما عليه من مخالفة ظاهر لباطن وغير ذلك من سوءات. وكم من ولد يصلحه الله تعالى ولو بعد وفاة والديه، ويحفظه ويكرمه، ببركة صلاح والديه أو أحدهما: “وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا” [الكهف: 82].


لقد أحببت أبي عبد الرحمن أبًا قائمًا بحق الأبوة وفضلها، وأحببته رجلًا وافر الرجولة سامق الأخلاق ظاهرًا وباطنًا، وأحببته معلّمًا ذا سعة علم ودراية واطلاع، وأحببته مربّيًا هاديًا بالقدوة في نفسه طالبًا للمعالي من نفسه، وأحببته صاحبًا ذا عقل وحكمة وعمق فهم وشعور … وكنت أظن أنني وقفت على عمق محبتي له في حياته، فإذا وفاته تزيد العمق غَورًا وتؤجج المحبة أجيجًا لا أقول يذكّرني به بل لا يتيح لي أن أنساه. ولما تأمّلت فيما جرى معي مقارنة بآخرين توفي لهم والد أو والدة فما تحرك لهم ساكن فوق حدود الواجب الشرعي أو العرفي، تحققت أنه ليس أشد إيلامًا في ميزان الوالدية من حسرة زفير ولد فُجِع بوفاة والده، إلا صُعَداء نَفَس ولد استراح بوفاة والده!


ختامًا، من لم يُكتب له نصيب من العمل الذي لا ينقطع في ذرية يربيها، فليكتب لنفسه نصيبًا بنشر علم نافع أو إجراء صدقة، ولا يتقاعس دونهما أو أحدهما، فهو المحتاج وهن الباقيات. واللافت أن هذه الأعمال الثلاثة تقوم على جوهر واحد، وهو الإحسان بغير مَنٍّ ولا أذى، فذاك أرفع العمل الذي أحقَّ الله تعالى له الشكر الخالد عنده في الآخرة، والذي يُحقِّ لصاحبه العرفان الدائم عند الناس في الدنيا.


ولطالما استعبد الإحسان إنسانًا .. ما ظل بغير منٍّ ولا أذى.

من كتاب #أبيعبدالرحمن
يصدر قريبًا إن شاء الله تعالى

رأيان حول “هل لك ولد صالح يدعو لك؟

اضافة لك

  1. رحم الله أمي وأباك وجعل مثواهم الجنة، وبارك الله فيك،عندي سؤال يحدث لي كل فتره نوبات من الحزن كيف اتعامل معا ؟

    إعجاب

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑