ما هي الأسئلة الأربعة لضبط بوصلتك في الحياة؟ – ملخص الكتاب

“كيف يكون النهوض بالأمة؟” هذا من أكثر الأسئلة الشاغلة والمحاور المتداولة في مختلف المواد المنشورة مسموعة ومرئية ، وهو سؤال مُشكل من جهة ، فمن ذا الذي يدعي أنه يملك ناصية “الـ” حل لما يبدو واقعا معضلا متشابكا؟ لكن الجواب عن هذا السؤال من الجهة الثانية حتمي ولازم ، بل وحاضر على الحقيقة . لا يحتاج أحد أن يدعي معرفته بالحل لأن الحل بالفعل قد وضع بين أيدينا منذ أن أتم الله تعالى علينا نعمته بإكمال هذه الدين حتى قيام الساعة . فلن يبعث نبي من بعد الخاتم صلى الله عليه وسلم ، ولن يتنزل وحي آخر ، ولن تهبط هداية جديدة من السماء .

وهذا الحل الذي بين أيدينا هو أوسع من أن يبسط في دقائق أو يعد في نقاط ، وإنما سنقف في هذا المقام الموجز على الأساس الذي بدونه لن يمكن أن نرمم أو نشيد شيئا . وذلك الأساس في يقيني واعتقادي الشخصي هو : المسؤولية الفردية. وهذا مفهوم ليس مخترعا ولا مستحدثا ، بل إن المتأمل في القرآن والسنة وسير السلف ومواعظهم يجد من الآيات والأحاديث والآثار ما ينبه لهذا المفهوم وركنيته في أي عمل وأي علاج وأي تقدم وأي بيئة وأي زمان ، لأنه يبدأ عند كل فرد من نفسه ومن حيث هو هو في ظروفه وأحواله وبيئته ، وبقدر ما يملك من زمام نفسه وإدارة ذاته . وكم تكرر في القرآن الكريم التأكيد على المسؤولية الفردية والحساب الفردي بما لا يتعارض مع ولا ينفي المسؤولية الجماعية إذا قدّرنا كلا بقدره، وإنما يخرجنا \من دائرة التحجج والأعذار التي لا تنتهي بما هو حولنا وما هو خارجنا بدل مواجهة ذواتنا. ومن ذلك  قوله تعالى في سورة مريم {وكلّهم آتِيه يوم القيامة فَردًا} ، وفي سورة النساء{فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين} .

وإذن من أين تبدأ المسؤولة الفردية وأين تنتهي؟ وكيف يكون تطبيقها وتربية النفس عليها؟ هذا ما أعرض لجوابه بالتفصيل من خلال أربعة أسئلة أساسية ، الاشتغال بها كفيل بضبط بوصلة سعيك في الحياة عامة بأمر الله ، والله يسددك فيما وراءها . وقد وضعت لتلك الأسئلة كتابا مفصّلا في ألف صفحة، وبياناته موضحة هنا ، لذلك أكتفي في هذا المقام بعرض عام وموجز لكل سؤال من الأسئلة الأربعة.


  1. السؤال الأول: من هو خالقي؟

وهذا السؤال ينبغي أن يضبط :

  • فهمَنا لسنن الحياة وقوانين والوجود والثواب والعقاب كما أرادها خالقها . وهذا بالتالي يضبط توقعاتنا من هذا الوجود على ما أوجد له ليس على ما نريد منه أن يوجد . فالله تعالى – مثلا – أخبرنا أن حياتنا دنيا وآخرة معا ، وأن الدنيا مرحلة لها خصائصها أهمهما الاختبار والزرع والآخرة المرحلة التالية ولها خصائصها أهمهما الجزاء والحصاد ، وكل ما نمر بنا من نعم وابتلاءات إنما هي صور ومراحل من اختبار طويل ممتد ليس إلا ، وليست الجزاء الخالد النهائي وإنما نفحة مما ينتظر .

ويضبط السؤال من ثَم تركيزَنا في السعي دون كثير انشغال بالنتائج ، لأن القانون الرباني يقول “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى” ، ليس ما جمع ولا ما ادخر ولا ما أجل لغد من عمل ، بل وله ما سعى وإن لم يشهد أثره أو نتاجه . هذا لا ينفي أو يعارض اجتهاد كل عامل في تخيّر الثغرة الأولى في سياقه ، والنفع الذي هو أقدر عليه ، لكنه ينفي ويعارض نفسية التلهّف على شهود الأثر وحضور المنّة وتعجّل النتائج!  ولو أن كل سلفنا عاشوا بنفسيتنا اليوم التي تنتظر الثمرة وتتشرط شهود النتائج لما أكلنا تمرا ولما قرأنا مصنفا! فالنخلة تحتاج من وقت غرس البذور حتى أول محصول لعشر سنوات في المتوسط! وغالب مصنفات السلف توفاهم الله قبل أن يشهدوا انتشارها أو اتساع أثرها والإقبال عليها.

  • ويضبط من جهة أخرى مفهومَ الأمنيات ، وما يلحق به من اعتبار الدعاء معبرا لتحقيق الرغبات وبنكا لصرف شيكات الأماني ، ولعل أشهر الدعوات في هذا المضمار دعوات الأمهات خاصة في أوقات الرضا عن الأولاد أو الامتحان “ربنا ينولك اللي في بالك” . هذه الدعوات وما شاكلها فيها الكثير من الإشكاليات العقدية .فحسن الظن بالله وفضله لا يعني أن تضع قائمة بالأمنيات وتشرطا للنتائج ، ثم تنتظر من الله أن يلبي لك على ما تهوى ، فلابد أن تكون هذه الوظيفة أو تلك الزيجة أو “اللي في بالي” ، وإلا فلا!

بداية الله تعالى لا يَلزَمه شيء تجاه أحد ، وثانيا الله تعالى لا يعجزه شيء ولا أحد ، فتدبيره تدبير ملك لا يسأل عما يفعل وتقديره تقدير عدل وحكمة لا شك فيهما . لذلك حسن الظن بالله يعني أن تظن بالله ما الله أهله بغض النظر عن أي اعتبار آخر ، مهما جاءت نتيجة على غير ما توقعت أو وقع أمر دون معرفة وجه الحكمة ، يظل اليقين بالله بما هو أهله يقينا لا يتزعزع لأنه يستمد أنفاس حياته من ذات الله رأسا ، فالله أهل كل خير وحكمة قطعا . هذا معنى أن تجيب سؤال: من هو خالقي؟ بأن تفهم عن الله تعالى ما الله تعالى أهله كما بيّن لنا في أسمائه وصفاته ثم توقن بمعانيها ومقتضياتها دون أن تزيد أو تنقض شيئًا من عند نفسك!

كذلك حسن الظن بالله وغاية التضرع في الدعاء هو أن تفتقر لفضل الله لا لذات الأمنيات ، وترجو كرم الله بغير أن تحصره في صورة معينة إذا لم تتأتَّ خاب ظنك! بل افهم عن الله سننه التي سنّها في تدبيره وأرضه وبين خلقه ، وما وعد به فالزمه ولا تزد عليه توقعات من عند نفسك .

قد وعد تعالى – مثلًا – بإجابة الداعي متى دعاه ، لكن ليس شرطا في التو واللحظة . وهو يقدر للعبد الخير قطعا لكنه “الخير حيث كان” كما في دعاء الاستخارة ، لا حيث أردت أن يكون بالضرورة ، ولا لزاما على ما تخيل ، وذلك لأن الله يعلم والعبد لا يعلم . وتكفّل الله بضمان الرزق الذي قدّره لكل أحد وفق سياقه بحكمة وعلم وعدل ، ولا يدخل في الضمان أن تبيت ورزق سنة كاملة محسوب أمامك! فـ {وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]، لكن كل نفس تدري ممن تطلب الرزق .


  • السؤال الثاني: ما الذي كلفني به خالقي؟

الاشتغال بجواب هذا السؤال يضبط عدة أمور من أهمها :

  • القيمة الأصلية والقيمة المضافة : لا فرد مهما صغر صغير من حيث الأصل ، لأن قيمتك وكرامتك كمخلوق مستمدة من حقيقة أزلية هي أن الله لا يخلق شيئا ولا شخصا عبثا ، حتى الحائدون عن أمر الله تعالى لهم وظيفة بدونها يختل ميزان هذا الكون كاختبار مؤقت ، وهي في قوله تعالى : “وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا” [الفرقان : 20]، وقوله ” وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا” [الزخرف : 32] ، وقوله : “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ” [الأنعام: 165] .

وإنما يطرأ على الفرد الصغر أو الكبر بحسب ما يكتسب بسعيه ، ومن هنا فلا ينبغي أن يستصغر المرء نفسه استصغارا يمنـعه أن يكتسب قيمة مضافة إلى جانب قيمته الأصلية ، أو يظن أنه بغير مجموعة أو تكتل لا يمكنه تحقيق شيء يذكر ، والتاريخ عامر بسير مشاعل الإنسانية الذين كانوا في البداية أفرادا قبل أن يصيروا في النهاية أمما.

  • استصغار العمل : عندما نتأمل في القاعدة النبوية “لا تحقرن من المعروف شيئا” نجد أن صيغة النهي في الحديث قاطعة . والتنكير في كلمة “شيء” يفيد مطلق المعروف ، أي معروف وأي خير وأي نفع. وعندما نتأمل في كتاب الله تعالى ، نجد أن كل المواثيق والعهود التي أخذها سبحانه على المؤمنين خلاصتها ركنان فحسب : أن يؤمنوا ، ثم يعملوا تصديقا لذلك الإيمان . لم يطالبنا الله مطلقا بضمان الأثر ولا حتى شهوده ، بل إن قضية الإيمان نفسَها وهي قضية الوجود الكبرى تقوم على “الغيب” ، فأنت لا ترى عِيانا ما تؤمن به في هذه الدنيا ، ولا تشهد حقيقة ثمار إيمانك هنا ، ولا تجني حقيقة عواقب أفعالك بعد .

وقد أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان ممن آمنوا به ، ومن الأنبياء من يأتي وحده ليس معه أحد  . أولئك الأنبياء أكرم الخلق على الله وأرفعهم درجة بلا مِراء ، مع ذلك لم يمنحوا امتيازا خاصا بضمان أثرهم أو سعة نفوذهم أو كثرة أتباعهم! وكذلك لم ينتقص انعدام الأثر أو الأتباع من قيمة المجهود وأداء مانة النبوة عند الله وفي ميزان الله .

من جهة أخرى مثل هذا الاستصغار قد يكون مدخلا من مداخل الشيطان بتحقير ما تعمل من الصالحات في نظرك لِيَحْزُنك ، فيثبطك عن المزيد ، بل مع الوقت يثبطك عن الأصل ، حتى يلقي بك في دوّامات الاكتئاب والعجز والسلبية . أو يكون الاستصغار انعكاسا لآفات خفية أو حظ من حظوظ النفس بعكس ما يحسب صاحبها من أنه يقلل من قدر نفسه : فهنالك فارق بين حرصك على النفع وتطلعك للإبهار، واستصغارك لهيلمان أثرك وقلة المصفقين أو المتابعين لك في جنب ما تشعر أنك مستحق له بما عندك من طاقات وعلم ، هما في الحقيقة هبة وأمانة من عند الله تعالى.

وختام هذا البند أن الاستصغار الصحيح هو أن تستصغر قدر عملك في جنب الله تعالى وحقه عليك ، وهذا لازم في كل عمل تعمله مهما كبر ، لأن عملك لن يكون أبدا مكافئا لفضل الله تعالى عليك ، ولا تفضلا منك عليه سبحانه ، ولا حتى جواز استحقاق لجنته ورضوانه . وإنما غاية عملك أن تُريَ الله تعالى من نفسك الصدق في عبوديتك له رغبة ورهبة ، ومحبة وخشية .

  • التوهان في مراد الله: كثر الحديث عن البحث عن مراد الله تعالى ، وبقدر ما بدأ هذا المصطلح بقصد طيب وهو العناية بفقه الدين كمرجع للحياة ودليل لحسن التعامل معها وفقه سنن الله في أرضه ، انقلب في النهاية لمظلة فضفاضة لتبرير التخاذل في أخذ الدين والحياة والعمر بقوة ، بل وتمتد لتشمل تبرير التوهان المتكلف والحيرة المتوهمة في كثير من الأحيان . ذلك أن مراد الله على الحقيقة واضح بيّن ، فالدين قد اكتمل بالفعل ، بما أنزل الله علينا من قرآن فصل ، وبما تركنا عليه نبينا من “مَحَجّة بَيْضَاءِ لا يَزِيغُ عَنْهَا إِلاَّ هَالِكٌ ” كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة ، فليس من مزيد وحي يتنزل ولا رسول منتظر ليبعث  ولا جديد هدى يتوقع .

واستشعار أن مراد الله شيء غامض في ظلام دامس مبثوث في مكان ما في أرجاء الكون ، بما يستلزم أن يهيم الفرد باحثا عنه ذات اليمين وذات الشمال ، يكاد يساوي القول المباشر بأن الدين لم يكتمل ، وأن الله تعالى حين قال {فاستقم كما أٌمِرْت} قد طالبنا بمتعذر علينا لأنه لم يبين لنا ما أمرنا أن نستقيم عليه! ومراد الله تعالى إنما يطلب بعبادة الدعاء ودوام الاستعانة (ويدخل في ذلك أول ما نتهاون فيه من الصلاة على وقتها والأوراد اليومية والأذكار وتعاهد القرآن)، ثم بالعلم الجاد الراسخ ، ثم يكابد بالصدق في محاولة المعايشة ، والصبر على ذلك ما امتدت بالمرء حياة . وليست له دهاليز أخرى خفية. فهو ليس مفرقعات فجائية خارقة ، ولا نجوما تسطع في سماء البعض مصادفة وتترك أخرى مظلمة ، ولا هي هبة لحظية تهبط على النائمين في المنام أو تزور المنتحبين على الأطلال .إن مراد الله لا يهبط ، وإنما “يُستجلب” من عند الله تعالى ، بما أمر الله تعالى به ، وما ترك بين أيدينا من سبل ووسائل تدل عليه ، لكن لمن يأخذها بعزم ويصبر عليها بيقين ، ثم لا يلتفت ولا يتذبذب ، ولا يمل ولا ييأس .

  • تكلف واجبات ومسؤوليات متوهمة: إذا كان الله تعالى قد خلقنا وبين لنا مراده من خلقنا ، فلا ريب أنه أتم ذلك البيان بتشريع متكامل يؤطر هذا التكليف وينظم علاقاته ومعايير الحكم فيه، بحيث يجعل لكل شيء من الأشياء قدره ووزنه كما أريد منه وبه وله . لكننا كثيرا ما نترك هذا البيان وراء ظهورنا ، ثم نشغل أنفسنا بما ليس مطلوبا منها أصلا عما ستحاسب عليه فصلا ، ونكلف أنفسنا فوق وسعها ما لم يأمر به الله. ومن نماذج هذا التكلف ما ذكرناه من كثرة القلق على النتائج والاغتمام بحسابات التأثير وكل المطلوب هو التركيز على صحة الوسائل وجدية السعي ومدى إخلاص صاحبه .

ومن النماذج الشائعة كذلك لهذا التكلف شدة الاستغال بقضايا الحب والبغض ، تحت الشعار المستهلك “الكل يحبني ولم أعتد أن يزعل مني أحد أو يكرهني” . وهذا من الوهم البيّن لأنه لم ولن يجتمع البشر على محبة شخص ، ولا جاء من الله أمر بضرورة أن تهوي إليك الأفئدة! وإلا كان الانبياء أولى الناس بذلك! وإنما غاية ما أنت مكلف هو حسن الخلق وحسن المعاملة ، وهذه لها تفصيلاتها البينة في الشرع لمن طلب العلم بها ، ولا عليك بعد ذلك من أحبك أو كرهك أو نفر منك أو حقد عليك . فإذا كانت القلوب أسرع تقلبا من القِدْر في غليانها كما في الحديث ، وإذا كنت لا تملك زمام قلبك إلا بالاستعانة بالله عليه ، فأنى تطمح أو تطمع لملك زمام الآخرين؟ وفي هذه التطلعات والمفاهيم من حظوظ النفس والتطلع للمكانة ما لا يخفى .

فتأمل كيف نلبس على أنفسنا ، ثم ننكفئ نبكي على عدم وضوح مراد الله وصعوبة وصولنا له!


  • السؤال الثالث: كيف سواني خالقي؟

الاشتغال بهذا السؤال يعين على ضبط التالي :

  • فلتسعك نفسك : لنرفع هذا الشعار في مواجهة ما نشهده اليوم على ساحة وسائل التواصل الاجتماعي من فورات التقلبات النفسية ، وشدة الحرص على جلب الاهتمام والتعاطف والإعجاب بمشاركة كل نفسية يمر بها صاحبها على الملأ . وليس القصد نفي أي درجة من درجات الشعور الإنساني أو حتى فوضويته في بعض الأحيان ، فإن هذا لابد وارد وكلنا نمر به ، لكن القصد ألا يكون هذا الانفلات العاطفي هو الطبع الرئيس ، ولا هذه الدراما الجماهيرية هي مبلغ همّ الواحد منا! لأن هذه النوبات لا هي تحل على الحقيقة أزمات نفسك بل تزيدها تعقيدا وتفتح عليك جبهات انشغال بكيفية التفاعل والتحاوب معك ، ولا تلك النوبات مما يتعبد بها لله بذاتها وإنما بكيفية تعاملك الصحيح معها.

إن مرفأ السلام النفسي اليوم ليس ليس أن نتبلد شعوريا وإنما أن نخشوشن أكثر إذا كنا جادين في أن نكون حلولا بذواتنا وأمما في أنفسنا، فيلملم كل منا شَتات نفسه بنفسه ، وإذا تعثر فلا يطل العَثرة ولينهض سريعا ، وليعلم كل ذي ابتلاء أنه ليس متفردا في البلاء ، وأن ابتلاءه ليس نهاية العالم وإنما نهايته هو وحده إذا قرر أن يكون كذلك .

وفي مقابل تلك الجماهيرية في العواطف تجد الغرق في نوبات الاكتئاب والإحباط والحسرة حتى يقعد الإنسان عن كل خير ، وهذا كذلك مما لا يتعبد لله به وليس حلا ، وإنما هي صور هروب متسترة ، فثمة فرق بين صور التفريغ العاطفي التي مهما طالت أو أراحت مؤقتا لا تحل شيئا ، والسعي الجاد في حل مشكلة ما لابد من مواجهتها مهما طال التهرب منها. والهرب من ثقل مسؤولية هذه الحياة وهذا العمر لن يرفع عنك عاقبة المحاسبة عليهما .

  • وإذا كان من المشروع اتخاذ صحبة للتعاون والتثبيت ، فلابد من التنبه إلى أن الصحبة إنما تراد في الله لا بديلا عنه أو ملاذا مشتركا معه . ذلك أنه مهما يكن من أمر فالله له ، لذلك “استعن بالله ولا تعجز” كما في الحديث ، وليكن الله ملاذك الأول قبل سماعة الهاتف أو تدوينات الفيسبوك ، ومن كان الله ملاذه الأول لم يحوجه لغيره ، بل إنه تعالى هو الذي يوقف لك الشخص المناسب ليشير عليك بالمشورة المناسبة ، بدل أن تذهب توزع خبابا نفسك على هذا وذاك .

وليترفق كل ساع للشكوى أو طالب للفضفضة فما منا إلا وهو ذو هم ، ولذلك من الخير أن يكفي كل امرئ أخاه همه ولا يزيده عليه ، وأن يقتصر قدر المستطاع على مشاركة دواخله عند حاجته للمشورة ، لا لمجــرد الشكوى أو مجرد المشاركة .


  • السؤال الرابع: كيف أرجو خالقي؟

جاء في صحيح مسلم عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ : يَا بِلَالُ :”حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ عِنْدَكَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْفَعَةً ، فَإِنِّي سَمِعْتُ اللَّيْلَةَ خَشْفَ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ ، قَالَ بِلَالٌ : مَا عَمِلْتُ عَمَلًا فِي الْإِسْلَامِ أَرْجَى عِنْدِي مَنْفَعَةً مِنْ أَنِّي لَا أَتَطَهَّرُ طُهُورًا تَامًّا فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِي أَنْ أُصَلِّيَ” .

في ثنايا هذه القصة عبرة خفية ، ومعيار أكيد لضبط الأولويات لمن شاء أن يسدد سعيه : قوله أرْجَى عندي ، أي أرجو ثوابها عند الله تعالى وأبتغي رضاه بها .

  • الحرص على متابعة ما الذي ترجوه عند الله مما تعمل يعني دوام غربلة أولويات انشغالك ، فكم من عمل نزعمه أو نبدؤه في الله ثم ينقلب شاغلا عنه . وما ترجوه عند الله لا يحسب بهيلمانك الاجتماعي ولا عداد الإعجابات . إنه يحسب ببساطة بما أعددته من إجابة لهذه الأسئلة الخمسة الواردة في الحديث {لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ} [الترمذي]. فأنت لا تسأل لماذا لم يكن مرتبك الشهري عدة آلاف ، ولا لماذا عدد متابعيك لم يصل للمليون ، ولا لماذا لم تحضر الدورات التدريبية لفلان أو فلان!
  • ومن عجب أن تكثر دعاوى إرادة وجه الله بهذا النشاط أو ذلك العلم ، ثم يكون أول ما تضيعه بانشغالك بهما هو الصلاة على وقتها وأنت قادر ، أو إتيانها خاطفة لتنتهي وتعود لهذا النشاط أو ذلك العلم ، كأن تلك الصلاة ليست هي أول ما يريده الله الذي تبتغي وجهه ، وأول ما تحاسب عليه قبل هذا النشاط أو ذلك العلم . وقس على ذلك الوقوع في كثير من المحاذير كالتهاون في الأوراد أو الاختلاط غير المنضبط أو التفريط في حقوق واجبة لأجل القيام بمجاملة وحتى الاستكثار من العلم ودوراته طلبا للمكانة والحضور أو هروبا من التزام آخر كمساعدة الأهل في المنزل!

وكم من كثير مما ندعي أننا نرجوه عند الله ليس فيه ما يرجى حقيقة لو صدق الرجاء، وكثير مما نهمله هو عين ما يُرجى. فاحرص دائما على العناية بهذا السؤال ولك من الله السداد .

وإذا كنت ترجو الله وحده ، فلا تعش بنصف قلب ، إذا أردت وَصْلا فَصِل في وضوح وإذا شئت قطعا فاقطع في أدب ، إذا عزمت فتوكل وإذا خيّرت فاستخر واختر ، إذا كنت ستعمل فاعمل أو كنت ستغادر فغادر ، تريد طلب العلم اذهب واطلب أو تريد رياضة الجسم انزل وامش . خذ الحياة بقوة واتخذ القرارات بحسم ، وامض في عمل ما تريد عمله بدل الدلال والتكاسل ثم الشعور بالرِّثاء لنفسك أو السَّخَط عليها . وإنك إذا لم تنهض بنفسك لنفسك اليوم فلن ينهضك أحد ولن يدفعك شيء لا غدا ولا بعد غد ولا أبدا .

ختاما ، ليكن همك في تصرفاتك كلها ما يطلع الله عليه منك وليس ما يظهر للناس عنك ، فالناس أبدا سيتكلمون ويخوضون ويرضون ويسخطون ، لذلك من جعل الله همه جمع عليه أمره وأهدأ باله ، ومن تطلع للناس كثر عليه الغم وتشعبت به المسالك ولم يرضَ عنه الناس ولا رب الناس.

ودونك موعظة بليغة للتابعي الجليل عطاء بن رباح ، يقول فيها لهشام بن عبد الملك :

“اتق الله في نفسك يا أمير المؤمنين؛ واعلم أنك خلقت وحدك، وتـمـوت وحدك، وتُـبعــث وحدك، وتُـحشـر وحدك، وتُحاسب وحدك، ولا والله! ما معك ممن ترى أحد” .


رأيان حول “ما هي الأسئلة الأربعة لضبط بوصلتك في الحياة؟ – ملخص الكتاب

اضافة لك

  1. جزاك الله خيرا
    اعتذر منك ولكن لم أفهم نقطة معرفة مراد الله يكون بطلب ذلك من الله ماذا تقصدين بها؟هل تقصدين بها معرفة مراد الله مني انا كفرد ام بوجه عام؟

    إعجاب

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑