كيف نشأنا على الفصحى واللسان العربي؟

كانت لأبي وجدي من قبله – رحمهما الله تعالى – عقيدة راسخة مفادها أن الناشئ الذي ينشأ راسخًا في هُويّته ولسانه الأم يصير مهيئًا وقادرًا على التعامل الرصين مع الثقافات والهويَّات الأخرى، والتمكن من مختلف الألسنة حين يتعلمها. لذلك لم يكن يؤيد الاستعجال في تعريض الطفل للغات الأجنبية وثقافتها ومفاهيمها قبل أن يستقيم لسانه على لغته الأم لسانًا وفِكرًا، ويتشرَّب ثقافته ومفاهيمها (على سنّ التاسعة أو العاشرة على الأقل).  أمّا مجرّد اكتساب اللغات بمجرّد حفظ حفنة مفردات والإلمام ببضع قواعد وتحريك اللسان بكلام وعبارات، فهذه مهارة يمكن بالفعل تدريب الطفل عليها من الصغر لاعتماده على المحاكاة وسهولة تطويع لسانه. لكن المسألة التربوية هنا ليس مجرّد إكساب الطفل مهارة عابرة، وإنما هي غرس انتمائه وتشكيل هُوِيَّته وصياغة شخصيته.  لذلك إذا تعرّض الطفل لمخالطة البيئة الأجنبية قبل نضجه الكافي لسبب ما، فلا بدّ من توازي ذلك مع مخالطته لبيئة الأم وبعناية وتركيز أكبر، حتى لا يقع عنده تشويش أو تداخل بين ما ينتمي له وما هو أجنبي عنه.


وقد نشأنا وأبي لا يتحدث إلا العربية الفصحى على الدوام، داخل البيت وخارجه، ومع أيٍّ كان، تنساب على لسانه بسلاسة وتلقائية وتمكّن طبيعي، بلا لَحْن ولا لجلجة. فورثنا عنه ذلك اللسان بالاقتداء والمحاكاة، حتى إن أبي أسمعني مرة تسجيلًا لي وهو يحفّظني سورة “الإخلاص” وعمري عامان تقريبًا، فكان يقول لي : “هيّا، اقرئي”، فرددتُ عليه بعربية مستقيمة ومشكولة : “بل اقْرَأْ أنْتَ أوَّلًا”! . وكان من عادة أبي حين ندرُس أو نقرأ أو نشاهد معه شيئًا أن يستوقفنا ليسألنا عن إعراب كلمة أو تصحيح لَحْن (خطأ في التشكيل)، وكثيرًا ما كنا نعرف موضع اللحن سماعيًّا ونصححه بالسليقة، ولم نكن درسنا النحو بعد ولا عرفنا موضع الكلمة من الإعراب. ثمّ لما قاربنا المرحلة الابتدائية، شرع أبي يعلّمنا قواعد النحو العربي في مدرستنا المنزلية. وكان أول كتاب ندرس منه النحو معه كتاب “النحو الواضح” للمؤلِّفَيْن علي الجارم ومصطفى أمين، وأول درسٍ قرأه معنا “المبتدأ والخبر”. وكان أول كتاب بلاغة ندرس منه معه “البلاغة الواضحة” لنفس المُؤَلِّفَيْن. ثم كلما كبرنا انطلقنا في القراءات الأدبية واللغوية والدينية من مكتبات أبي العامرة ذات الانتقاءات الممتازة ؛ وبذلك نشأنا بحمد الله تعالى في أحضان العربية بمختلف درجات عُمقها، فلا نستصعب أسلوبًا لرصانته، ولا يستعصي علينا فهم كتب التراث والسَّلَف، بفضل الله تعالى وحمده ؛ وجعل الله حسنات ذلك في ميزان معلّمنا ومُربينا عليه الرحمة والرضوان.

وحين بدأنا مخالطة أطفال آخرين من مختلف الجنسيات، كان من السهل على اللسان الذي استقام على الفصحى أن يحاكي ما دونها، فكنّا نتقن الحديث بمختلف اللهجات ونتنقل بينها ببساطة وسلاسة بحسب المتحدّث. وتفرّع عن ذلك قوّة المَلكَة اللغوية عندنا، والقدرة على تعلم واكتساب اللغات ذاتيًا، كالإنجليزية والأسبانية والتركية والفرنسية (بدرجات متفاوتة). فلم تكن النشأة على العربية وفيها عائقًا كما يُخَيَّل للكثيرين، الذين يسارعون لقذف أولادهم في المدارس الأجنبية ليكتسبوا لغاتها في الصِّغَر، فلا تكون المحصّلة إلا عُجْمَةٌ ضَحلَة وعربية هَشّة! فكما أن تدوير اللسان السطحي ببضعة ألفاظ أجنبية لا يعني إتقان الطفل للغة الأجنبية ناهيك عن تمكّنه منها، كذلك انطلاق اللسان بالعاميّة الركيكة لا يعني تمكّن صاحبها التلقائي من العربية سواء بتحريك لسانه بالفصحى دون لَحنٍ ولا لجلجلة أو بفهم الكلام الفصيح سماعًا وقراءة! وهكذا بَدأتْ الفجوة المتسعة بين أجيال العرب والمسلمين من جهة ولسان العربية ودين الإسلام من الجهة الأخرى! وقد كتب أبي – فيما كتب من مقالات تربوية وعلمية – عن مناهج تعليم الأطفال اللغات في الصغر وآثار تلك المناهج على المدى، منها : “كيف يكتسب الأطفال اللغة؟ وهل يمكن تعليمهم عدة لغات؟”، “هكذا يعلّمون اللغة ويسيطرون”.

وأما سرُّ تحدّث أبي بالفصحى، فمبدؤه نشأته على يد جدي الشيخ عبد اللطيف النمر رحمه الله، الذي كان متمكنًا من العربية نحوًا وبلاغة ومتحدّثًا للفصحى بطلاقة، وتخرّج في كلية دار العلوم، ثم عُيِّن إمامًا وخطيبًا. وقد أشبهه أبي رحمه الله في كثير من خصاله ونَهَل من علمه الدينيّ واللغوي. ثم لمّا سافر أبي للندن لاستكمال دراسة الطب بعد تحصيل شهادة البكالوريوس من جامعة الاسكندرية، وجد النظام الإنجليزي يَعْقِد لكل طبيبٍ وافدٍ امتحانين : امتحانًا في الطب وامتحانًا في اللغة الإنجليزية. وشَهِدَ أطباءَ كثيرين نجحوا في امتحان الطب ثم رسبوا في امتحان اللغة، فكان نصيبهم ترحيلهم لبلادهم ومنعهم مزاولة المهنة في إنجلترا! فعجب أبي لذلك الحرص والغيرة منهم على لغتهم الأم، وقامت في نفسه الحَميّة للعربية التي هي أكرم اللغات وأشرفها وأجدرها بالحرص والغيرة عليهــا، فنحن أحقّ من غيرنا بالاستمساك بلغتنا ونشر التمسّك بها. ولم يكن مفهوم التمسك بالهُوِيَّة العربية عند أبي إتقان اللغة العربية من حيث صحّــة القواعد اللغوية أو امتلاك أداة أدبية جميلة لزخرفـة الكتـابة فحسب، بل تَشَرُّبها من حيث هي لسان حَيٌّ وذائقة مخصوصة وكيان متكامل مع روح الديانة وشخصية المسلم. فكان أن عاهد أبي اللهَ منذ ذلك الحين ألا يتحدث ولا يحدِّث إلا بها، ويسَّر الله عليه تطبيق ذلك إذ كان لسانه بالفعل مستقيمًا عليها بالتنشئة، وآتاه الله نفسًا أبيّة قوية في الحق ولو انفردت بتطبيقه، فلم يَثْنِه عن عزمه ذاك حرج من مخالفة الآخرين أو تخوّف من انتقادهم. ولمّا بلَّغ جدي عبد اللطيف في إحدى رسائله له بذلك القرار، هنّأه عليه وأيَّده فيه، ودعا له بالعزة والإعزاز حيثما حلّ، وأن يهدي الله به خلقه.

والعجيب أن الكثيرين حين يسمعون حديث أبي للمرة الأولى أو يعرفون بقصته، يتوقعون أنه لا بدّ تعرض مرارًا للتهكّم أو الانتقاد على مسلكه ذاك ؛ والحق أن مسلك أبي لم يَلقَ على مدى عمره المبارك إلا العجب والإعجاب، والحفاوة والإشادة. وتأثّر كثيرون بمنهجه ودوافعه تأثرًا دفعهم للاقتداء به، ومحاولة مجاراته في التحدّث معه بفصحى ركيكة! وحدث أنّ رئيس القسم في مستشفى اكستر الإنجليزي سمع أبي وهو يتحدث الفصحى مع زميل إفريقي، فنادى أبي بعد انتهاء حديثه، وسأله : “ما تلك اللغة التي كنتَ تتحدثها؟”، فأخبره أبي أنها اللغة العربية، فابتسم مندهشًا في إعجاب وقال : “إنّ لها جَرْسًا قَوِيًّا أَخَّاذًا!”.

ومن لطائف تأثري بمنهج أبي في تعليمنا الفروق اللغوية والانتباه للَّحْن والأخطاء الشائعة، أنّ أول سلسلة قصص أطفال قمتُ بتأليفها وأنا في المرحلة الإعدادية كانت بعنوان “لُغتنا الجميلة”، وفكرتها تدور حول أسرة تمرّ بمواقف، يتمّ من خلالها تصحيح خطأ شائع في نطق واستعمال ألفاظ أو بيان دقائق لغوية مع آداب تربوية، وكانت شخصية الوالد فيها مستوحاة من شخص أبي رحمه الله، وكذلك نصائحه وتوجيهاته.

3 رأي حول “كيف نشأنا على الفصحى واللسان العربي؟

اضافة لك

  1. جازاك الله خيرا.
    إبنتي عمرها سبع سنوات و أريد أن أحببها أكثر في المطالعة . أتساءل إذا كنت مازلت تحتفظين بالمجموعة القصصية التي كتبتها و أنت صغيرة . يغلبني الفضول لأقرأها و تقرأها ابنتي.
    حفظك الله أخيتي.

    إعجاب

    1. حياك الله أختي الكريمة.
      المجموعة القصصية منشورة بالفعل مع دار المعرفة للنشر والتوزيع

      إعجاب

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑