احفظ الله تَجِدْه تُجَاهك

(1)

{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات : 99] ..

أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام .. ذهب في طريق لم تكن عُدَّتُه فيه إلا يقينًا وثقة! ليست الثقة الجوفاء بالنفس والذكاء والمواهب والتخطيطات الدقيقة وكل تلك الأسطوانات المشروخة التي ترددها معجونات التنمية البشرية ، فكل ذلك لا ولن يغني شيئًا إذا لم يكن على الله التُّكْلان الحق ومن الله استمداد العون بصدق ؛ إذ إن العبد مهما بلغ من دراية ومهما دقق في حسابات العواقب وتوقعات النتائج ، سَيَصْدُق عليه ومنه دائمًا وأبدًا ما جاء في دعاء الاستخارة : “اللَّهُمَّ إنِّي أستَخيرُكَ بعِلْمِكَ ، وأستَعينُكَ بقُدْرتِكَ ، وأسألُكَ من فضلِكَ العظيمِ ، فإنَّكَ تَقدِرُ ولا أقدِرُ ، وتَعلمُ ولا أَعلَمُ ، وأنتَ عَلَّامُ الغُيوبِ …” .

لعلك لا تدري ماذا تُرزق غدًا أو تُحرَم ، ولعلك تحتار عند مفترقات طرق لا تستبين أيها خير عاقبة وأهدى سبيلًا ، ولعل النفق لم يظهر في آخره النور كما كنت تتوقع .. ستتقلب بك الحياة وكل يوم أنت في شأن بين كثير من التَّعِلَّات والترددات ، ليست سوى جزء من بشريتنا وضعفنا المركب فينا ليدفعنا دفعًا – إذا فَقِهْنا وآمنّا – للافتقار للواحد القهار ، الذي ما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا يكون شيء إلا بإذنه وما يعلم جنوده إلا هو .

إن الثقة الوحيدة مأمونة العاقبة هي اليقين بالله تعالى وحده ، أنه تعالى لا يخذل نفسًا هو خالقها وهي ترجوه . وإنك مهما علمتَ فما خفي عنك أعظم ، ومهما خطّطتَ تظل للتوفيق الإلهي أحوج ؛ فتمسّك بالثابت الذي لا يتبدّل واليقين الذي لا يتحوّل ، وارْجُ وَجهَهُ وتوفيقه ونوره وهُداه سبحانه في كل ما تفعل أو تترك ، ثم لا خوف عليك ولا حزن ولا بأس ، فإن العاقبة للمتقين ، وذاك عهد ربّ العالمين .


(2)

{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي} [آل عمران : 35]

“حَنَّة” اسم ربما لا يتألق تاريخيًّا ، لكن من منا لم يسمع بــ “امرأة عِمران”؟ تلك السيدة التي ذكر اسمها ربّ العالمين في أشرف كتاب نزل على أشرف الخلق . هل كانت حنّة تعلم أنها ستلد أنثى لا ذكرًا كما تمنّتْ؟ هل دار بخَلَدها أن تلك الأنثى ستكون أمًّا للنبي الأخير قبل خاتم الأنبياء؟ هل تخيلتْ ولو لوهلة أنها ستغدو جدّة نبي وأمّ صدّيقة؟ ما الذي فعلته حنّة لتستحق تلك المكانة العليّة؟! ما كانت خطّتها وماذا أعدّت من عدّة وحققت من إنجازات لتبلغ بها ما شاء الله تعالى أن تبلغ؟ غاية ما نعلم من أمرها أنها صاحبة النذر الذي سطر بصدقه صفحة خالدة في عمر الإنسانية جمعاء ، وصار غُرَّة تلمع على جبين الدهر أبد الدهر :

{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران : 35]

فكان أن تقبّل منها ربّها أحسن القبول وأنبت أثره أحسن إنبات .

إنه “الصدق” الذي إذا وقر في القلب أجابه الربّ ، ووفقه للأسباب وبلّغه بغير أسباب . ومع ذلك فهو الجزء من المعادلة الذي لا نلتفت إليه كما ينبغي في معمعة التخطيط وتدقيق الحسابات وحمّى الأخذ بالأسباب المادية . فتأمل نَذْرا أنجب نذيرًا ، وصِدقًا رفع للصدّيقية ، وصفاءً أورث اصطفاءً على العالمين . ومن يصدق الله يصدقه صدقًا يليق بجلال جنابه عزّ وجلّ .


(3)

بين {سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء} [هود : 43] و{ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات : 102] ، هل ثمّة ضمانة لصلاح الأبناء بصلاح الآباء أو العكس؟ وإذا لم تكن ثمّة ضمانة ففيم الجهد والرجاء؟!

جواب ذينك السؤالين كامن في القانون الإلهي الخالد : {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم : 38] .

المشكلة في السعي أننا ننسى كثيرا في حُمّى تمسكنا بالأسباب أنها مجرد أسباب لا مُسبِّبات بذاتها ، والسبب يعني في ميزان السعي أن تأخذ به ، ويعني في الحساب المادي أن عليه ان يُوصلك إلى حيث يفترض أن يُوصِل . لكن لميزان الغيب والاختبار والتدبير الإلهي حساب مختلف ..

هل هذا الحساب من شأنك؟ لا!

فهل السبب من عملك؟ نعم!

فخذ بالسبب لكن تعلق بالمسبب ؛ اسع بكل طاقاتك راجيًا بها وجه الله تعالى ثم لا تلتفت . والنتيجة الوحيدة التي يمكنك أن تضمنها في كل عملك وعلى كل أحوالك : أن تَصدُق الله ما استطعت .. بكلّ ما تفعل وما تترك وما تجرّب فما أصبتَ فيه شكرتَ وما أخطأتَ فيه استغفرتَ وتُبتَ ، فيتقبّل تعالى منك ويُربي عملك ويبارك أثرك ، حتى بعد موتك .

لو – فقط لو – نصرف كل ثقتنا كاملة في قوانين الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ومن خلفها ، ثم نتعامل مع كل معطيات الحياة بعد ذلك على أنها ليست سوى اجتهادًا ومقاربة تصيب وتخطئ بموازين الدنيا ، وتُثاب وتُؤجَر بموازين الآخرة . ودونك في سورة الكهف قصة الغلام الذي قتله الخَضِر عليه السلام بأمر الله ، في مقابل اليتيمين اللذين حفظ عليهما كنزهما بأمر الله كذلك . لقد حَفِظ الله الوالدين المؤمنين في الحالتين : في الأولى بتخليصهما من ذرية السوء ، وفي الثانية بحفظ حق ذريتهما من بعدهما حتى يبلغا أَشُدَّهما .


الخلاصة : “احفظِ اللهَ يَحْفَظْكَ ، احفظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إذا سألتَ فاسألِ اللهَ ، وإذا استَعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ ، واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعت على أن ينفعوكَ بشيءٍ ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروكَ بشيءٍ ، لم يضروكَ بشيءٍ إلا قد كتبه اللهُ عليكَ ، جَفَّتِ الأقلامُ ورُفِعَتِ الصُّحُفُ” [الترمذي] .

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑