الندم على تقصير فات أوان تداركه

الندم على تقصيرٍ فات أوان تداركه مما تعمّ به البلوى وتشتد به الأزمة النفسية . وأشهر صور ذلك النوع من التفريط ما يتعلق بحقوق أشخاص توفّاهم الله تعالى ولم يعد لاستسماحهم سبيل ، كعقوق والد أو شهادة زور أو غيبة أو أكل مال أو غير ذلك . إلا أنّ شرع الله تعالى واضح في أن باب التوبة مفتوح لأي عبد أذنب أي ذنب ، ما دام على قيد الحياة ولم يصل حدّ الغرغرة أي وصول الروح للحلق . فكيف يمكن الجمع بين فوات أوان التدارك من جهة وإتاحة أوان التوبة من الجهة الأخرى؟!



المقال مسجّل على الساوند

المقال مسجّل على اليوتيوب


بداية ، يعاقَب العبد على تفريطه في أي حق متعلق بالناس من جهتين :

  • جهة الله تبارك وتعالى : أي من حيث إنه عصى الله تعالى ولم يمتثل أمره بأداء الحقوق لأهلها . وهذه الجهة يتجاوز الله تعالى ويعفو عنها باتباع أمره تعالى بالاستغفار والتوبة كما سيلي بيانه في التعامل العملي .
  • جهة العبد المظلوم : أي الشخص الذي فرَّطتَ في حقه عليك ؛ ولا ترتفع عنك عقوبة هذه الجهة إلا بمسامحة ذلك الطرف وتحليله لك . ومن توفاه الله قبل أن تستحله وتطلب منه العفو ، ستظل المساءلة عليك قائمة من هذه الجهة ، وستتضح لك عقوبتك يوم الحساب واقتصاص المظالم ، وثمّة احتمال أن يكون صاحب المظلمة قد سامحك بينه وبين نفسه قبل أن يتوفّاه الله .

ثانيًا ، التعامل العملي مع تلك المواقف ينقسم لشِقّيْن :

  • الشِق الأول : متعلق بالماضي وما كان : فهذا لا حيلة فيه إلا أن يستعين العبد بالله على ما يجد من مشاعر الحزن والندم والحسرة على ما فرط منه وفرّط فيه حتى فات أوان إصلاحه وتداركه ، ثم يتشاغل بالشق الثاني .
  • الشق الثاني : وهو الحاضر : وهذا لا بدّ فيه من ثلاثة أعمال :
    • إكثار وتكرار التوبة والاستغفار على المستوى الشخصي .
    • الاستعلام عن حكم الشرع في نوع الحق الذي فرّط فيه ، فلعل ثمة سبيل لردّه لورثة صاحب الحق مثلًا .
    • السعي في مختلف أعمال البر التي يصل ثوابها لذلك المُتوفّى ، كتلاوة القرآن والدعاء والاستغفار له والصدقة العامة والجارية والحج عنه … إلخ .

ومن المؤسف أنّ كثيرًا من المسلمين يُسلِمون أنفسهم للإغراق في الشّق الأول من الندم والحسرة الذي لم يعد له حلّ ولا حيلة ، إغراقًا يعميهم عن الشقّ الثاني أو يصوّر لهم أنه لا جدوى من السعي فيه! فهذا اللبس بين الجهتين وعدم فصل الملفات هو الذي يخلق الإشكال الحقيقي والعقدة الأزليّة التي تجعل المذنب ييأس من التوبة ويقنط من رحمة الله ويزيد الإساءة سوءًا . فكيف يكون فصل الملفات؟

  • أوّلًا : لا بدّ أن يعي العبد أن الشيطان يحب أن يَحزُن قلب المؤمن ويغمّه ليُثقله ويُقعده عن التدارك ، بل ويتمادى في بث خواطر السوء في نفسه فيُخَيِّلَ له أن باب التوبة قد أغلق دونه وما عاد ينفعه أي عمل صالح ، فيفتح عليه بالتالي باب تفريط شامل في كل أنواع الطاعات والوقوع في مختلف أنواع السيئات ، بحيث يراكم العبد لتفريطه في جهة تفريطًا من كل جهة ولإساءته في وجه إساءة في كل وجه! وهكذا يتراكم هذا الأثر الأسود على المدى في نفس صاحبه حتى يحفر في أعماقه بئرًا سحيقة وهُوَّة عميقة ، فيقتنع أخيرًا أنه خرج من المِلَّة ووأنه مغضوب عليه عند الله وأنه خالد في النار … إلى آخر التصورات الدرامية التي يُخيّلها له شيطانه ووساوس نفسه الأمّارة وجهله المركّب بالشرع وأحكامه . وقد يصل تماديه في تلك القناعات الخاطئة والخواطر السوداوية للسخط على جهة الرب تبارك وتعالى بلوم العناية الإلهية التي خذلته والتوفيق الذي حرمه الله منه … وهكذا يتمادى بعناد وجهالة حتى يتفاقم الأمر للسخط على مبدأ الدين والحساب والامتحان الوجودي من أصلهم ، بما يدفعه دفعًا لجحود الكفر بالله تعالى ، سواء كان كفرًا حقيقيًّا يَخرُج به صاحبه من المِلّة ، أو كفرانًا معنويًا يدفع صاحبه لترك الالتزام به بالكلية والإغراق في اتباع الهوى وارتكاب مزيد من الذنوب والمعاصي وصولًا للكبائر التي منها كبيرة الانتحار .

ولعل هذا يبين لنا حكمة وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم في أن نغلق باب اللو والليت من البداية ، ولا نفتح على أنفسنا باب فتنة من خلالهما ، ففي الحديث الذي رواه مسلم : “ وإن أصابَك شيءٌ فلا تقلْ : لو أني فعلتُ لكانَ كذا وكذا ، ولكن قلْ قدَّرَ اللهُ وما شاءَ فعلَ فإن لو تفتحُ عملَ الشيطانِ” . ومن عمل الشيطان ومصلحته أن يزيد المسلم إغراقًا في دائرة الحزن والندم والجلد غير المجدي للذات : {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة : 10] . فالقلب الحزين هذا النوع من الحزن المتخاذل البائس المُنهِك مرتع خصب للشيطان ، ومثبّط لهمّة العبد عن أبواب الخير والتدارك المفتوحة أمامه .

  • ثانيًا : لا بدّ أن يعتقد العبد يقينًا ويستحضر صدقًا ما فَتَحه الله لكل عبد من باب واسع لا يُغلَق دونه أبدًا مهما فعل ما دام على قيد الحياة ، وهو باب التوبة والأوبة ، وإتْباع السيئة الحسنة لتمحوها ، كما أخبرنا الله ورسوله . والذي يتذبذب في الاعتقاد بجدوى التوبة وينجرف للإغراق في الندم القانط من رحمة الله وعفوه فهو يعاني بالتأكيد من خلل في مدى تصديقه لله ورسوله واختلال في رسوخ عقيدته . إذ تأمل كيف بدأ الندم بالشعور بالتقصير في جنب الله تعالى – وهذا مما يرضاه الله تعالى ويحبه من العبد ويفتح له به باب عفوه إذا طلبه – ثم كيف انتهى للسخط والكفر به تعالى – وهذا قطعًا لا يقبله الله من العبد ولا يعفو عنه إذا مات عليه! فالسر في الطريق الذي يسلكه القلب النادم والوجهة التي يوليها وجهه : فإما أن يتبع سبيل الذي شرعه الله له ويرتضيه منه ويعينه عليه ، أو أنه يتبع المنحى المخالف له .
  • ثالثًا : الفيصل بين الندم الذي يُتعبّد لله به وذاك الذي ليس إلا في حقيقته غطاء لاتباع الهوى ، الفيصل في اتباع أمر الله تعالى في التعامل مع تلك المشاعر ، وتغليب تصديقنا ويقيننا في كلام الله ورسوله على عبث الشيطان والهوى وخواطر السوء . فالله تعالى لم يتعبّدنا بالحزن والأسى واليأس والاكتئاب (وتأمل كيف أن الانغماس فيهم يزيد العبد بعدًا عنه سبحانه) ، بل تعبّدنا بالصبر والاستعانة واحتساب الثواب فيما نعانيه من أوجاع وآلام وبتكرار التوبة والاستغفار مما نقع فيه من زلات وذنوب (وهذا مما يقرّبنا إليه سبحانه) ؛ تمامًا كما نحتسب الثواب فيما نقوم به من طاعات ونحمده على ما نوفّق له من إحسان واستقامة . ولعل الله تعالى يطلع على ما في قلب المخطئ من انكسار وألم وندم صادق ، فيكون خيرًا له من العُجب بنفسه إذا كان أدّى الحق لصاحبه في حياته .
  • رابعًا : عدم توفيق العبد لطاعة ما في أوانها سببه سيكون من جهة العبد بالأساس ، فلعله وقع في غفلة عن ربه ولم يستشعر مدى حاجته لحفظ الله تعالى له على الدوام ولو طَرفة عين ، فيخلّي الله بين العبد والذنب لحكمة يعلمها سبحانه . ثم إذا أراد الله بالعبد خيرًا أيقظ فيه شعور الذنب ووجع الندم ، فوجودهما مبدئًّيا دليل على حياة القلب ، ومنهما يكون بابه للفرج وسببه لليقظة ودافعه للتدارك والاستقامة على أمر الله تعالى حتى يقبضه الله على خير مما كان عليه قبل ذلك الذنب .

وهكذا يمكن أن ينقلب ذنب واحد مفتاحًا لطاعات عديدة ، ويتضح أن ما بدا لنا عدم توفيق في البداية لم يكن إلا عين التوفيق والعناية الإلهية آخر المطاف ، وذلك فقط لِمَن يحسن الفهم عن ربه ويتأدب معه فيتعامل مع مختلف أطوار نفسه وتقلبات شعوره وعواقب أخطائه على النحو الذي بيّنه لنا ربّنا تعالى في شرعه ، فلا يغلق بابًا فتحه الله ولا يتألّى على الله بأنه لن يغفر له ولن يتقبل منه مهما فعل  .

واذكر ختامًا أن الله تعالى قطعًا أعدل العادلين فلا يظلم مثقال ذرة، وأفضل المتفضلين فيضاعف الحسنة أضعافًا كثيرة، وهو سبحانه لا يُحبط عمل العبد جملة واحدة ما لم يكفر به، بل يمكن أن يكون في العمل الواحد درجات مثوبة وأوجه مؤاخذة. لذلك لا تجعل للشيطان عليك سبيلًا بحجة حبوط عملك كله فتسيء حتى فيما كان يمكن أن تحسن فيه، ولا تُحَكّم ظنّ السوء وخطأ الفهم فوق حكم الله تعالى، بل الزم حدّ العبودية وأدب الامتثال، فما آتاك الله خذ به موقنًا بجدواه واحمده على توفيقك إليه، وما نهاك عنه انته عنه حذرًا من عقوبته وتُب عن المخالفة فيه، وهكذا يكون الجمع بين الرجاء والخشية حق الجمع.


وفيما يلي مراجع نافعة في التعامل مع الذنوب وفترات الحزن والانكسار :

6 رأي حول “الندم على تقصير فات أوان تداركه

اضافة لك

  1. نفع الله بك دكتورة هذا كله طيب من استغفار وتوبة وأوبه الى الله والله جل جلاله رحيم ودود يقبلنا حين عودتنا اليه ، أعتقد ان المشكلة والاسئلة تطفوا على السطح بعد الألم لماذا فعلت كذا،لما قصرت هنا، كيف أمكنني فعل ذلك؟ ولما بعد ان يكون قد غادرنا من قصرنا بحقه ما الحكمة من ذلك ؟ لما لم يقدر لي ان استيقظ ابكر من ذلك؟ الإشكالية التي تتبعها ربما من شدة الحزن نكون قد أسرنا أنفسنا في ذكريتنا لو تحدثنا أكثر لما في ذلك اليوم لم اجلس أو اخرج معه لو فعلت كذا لسرّ لو لم أقل تلك الكلمة التي أحزنته،، أهو حقا مجرد الشوق لهم أم أننا لأننا أخطأنا مع من نحب لا نملك الحق في مسامحة أنفسنا؟ ثم نحزن أكثر لأننا أصبحنا أنضج من ذي قبل ونستوعب أكثر لم يرنا من رحل بهذه النسخة المعدلة التي لو كانت وهو بيننا لتغيرت أشياء كثيرة .!!!

    إعجاب

    1. لذلك أوصانا المصطفى ألا نفتح باب “لو كان كذا كان كذا وكذا ، فإن لو تفتح عمل الشيطان” ومن عمل الشيطان أن يزيد المسلم إغراقا في دائرة الحزن والندم والجلد غير المجدي للذات

      إعجاب

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑