من مقتضيات الإيمان بالله الحق أن يكون هذا الإيمان فرقانًا ، يفرق بين الحق والباطل في النظرية والتطبيق .
![](https://hudhud0.wordpress.com/wp-content/uploads/2020/01/43691994_2062821390452083_7299030429716185088_n.jpg?w=722)
مفهوم ودلالة الفرقان
لمّا بعث الله تعالى رسولَه بالرسالة الخاتمة للناس ، جاء الأمر التكليفي بـلفظتي “الصَّدْعِ” و”الإعراض” : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحِجْـر : 94] . فلم يكن الشأن مجرد “الجَهْر” بالدعوة ، كما ساد في أدبيات السيرة والتاريخ ، بل “الصَّدْع” بالدعوة . و(الصَّدْعُ) في اللغة : “الفرق بين شيئين ، ويُستعمل في معنى الشَّق ، كمــا لو تَصَدَّع الشيءُ أي تَشَقق . وعندي صُــدَاع : أي كأنّ رأسِيَ فيها تَشَقّق” [لسان العرب] . وورد في تفسير الصدع فــــي الآية الكريمة : “شُقَّ جَمَاعَتَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ” ، و”فَرِّقِ الْقَوْلَ فِيهِمْ مُجْتَمِعِينَ وَفُرَادَى” .
والمستفاد من ذلك أنّ الحق حين أَنَزله الله الحق من السماء ، لم ينزل ليجمع الناس بل لِيَفْرُقَ بينهم! ليَفْرُقَ بين الناس على أساس التوحيد ، ويَفْرُقَ بين أعمالهم على أساس الإيمان . فتجد نوع الفُرقـان الأول في القرآن : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۖ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُـــــونَ (43) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْــــرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًـــا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَــدُونَ (44)} [الرّوم] ، والمقصود أنّ الناس يَتَصدَّعون يوم القيامة أي يتفرقون فرقتين : المؤمنين والكافرين ؛ {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران : 141] ؛ {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة : 43] .
وفي نوع الفرقان الثاني ، لا يكاد يُذكر العمل الصالح في القرآن إلا مقرونا بالإيمان والعكس : {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد : 29] ، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك : 2] ، {فمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف : 110] . وتأمل في هذا الحديث : {دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ مَعْبَدٍ حَائِطًا ، فَقَالَ : “يَا أُمَّ مَعْبَدٍ ، مَنْ غَرَسَ هَذَا النَّخْلَ أَمُسْلِمٌ أَمْ كَافِرٌ ؟” ، فَقَالَتْ : بَلْ مُسْلِمٌ ، قَالَ : “فَلَا يَغْرِسُ الْمُسْلِمُ غَرْسًا ، فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ ، وَلَا دَابَّةٌ ، وَلَا طَيْرٌ ، إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة”} [مسلم] . وورد في شَرْح النـووي على مسلم : “فالبناء وإن كان حَسَنًا من كل واحد ، لكنّ معنى القُرْبَةِ والثّواب فيه لا يكون إلا إذا قام به المسلم دون الكافر ، فإنّ الكافرَ ليس من أهل القُرْبَة ، وهو مأمور بتقديمِ الإسلام قبل الاشتغال بالغرس” ا. هـ .
بهذا ندرك أنّ مفهوم “الوَحْدَة” المحمودة التي يدعو لها الإسلام ، هي التي تكون على أساس قواعد “التوحيد” الحقَّة ، لا على الرغم من التعارض معه ، أو على حساب طمس معالمه وتجاهل مقتضياته ودَهْس أصوله!
فرقـان الحق والباطل
وهذا المفهوم مما يجب استحياؤه في عصر اليوم ، الذي ساد فيه تأصيل الحياد في نَفْس المسلم ووجدانه تجاه خطر الكفر بالله ، تحت مسميات التنوع الثقافي والحرية الشخصية ، التي توافق ظاهريًّا فهمنا السطحي لقول الله تعالى : {لا إكراه في الدين} [البقرة : 256] ، كأنّ الله تعالى لم يقل كذلك {لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم : 89] ، أو لم يَصِف الكفار بأنهم أعداؤه : {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت : 28] ، وغيرها من الآيات الدالّة على مدى خطر وقبح وشناعة الكفر بالله تعالى . فتتوازن كِفّتا الميزان بما يمنع تهوين شأن الفرقان وطمس معالمه على هذا النحو .
ونوع الفرقان المقصود في هذا السياق ليس صور المعاملات السلوكية مع غير المسلمين ، كالتهنئة بالأعياد والبدء بالسلام ، فتلك قضايا محسومة في مراجعها . وإنما الكلام بالأساس على القلب والشعور : ما يقع في قلب المسلم ووجدانه تجاه لفظة “الكفر” ، ومدى خطرها وعمق دلالتها عنده ، لا سطحية استشعار الأمر على أنه “مجرّد” اختلاف “ثقافيّ” في الرؤى ، و”بساطة” تقبّله على أنه حريّة شخصيّة بريئةُ السّاحة! بل يجب بعد كلّ ما سبق أن يستقيم في وعي المسلم إدراك أنّ قضية الإيمان والكفر ليست “مجرد” قضية من قضايا الوجود – وهناك من لم يَعُد يصنّفها كذلك أصلًا! – ، بل هي القضية التي لأجلها أقام الله الوجود ، وأرسل الرسل وأنزل الكتب السماوية على مرّ التاريخ ، وهي التي لأجلها يُبعَث الناس للحساب ويقومون لربّ العالمين! فالشأن جلل وخطير ، ويتجاوز التجريد والبساطة والاستهتار الذي يتعامل به المسلمون معها ، وينقلونه لا شعوريًا بدورهم لغير المسلمين ، فيكونون أوّل المثبّطين عن الدعوة للحق وهم حَمَلتُه . فتأمل المفارقة واعتبِر!
ومن مكامن الفرقان التي ستتكرر الإشارة إليها ، أن يفترق المؤمن بالله الحقّ عن غيره من أهلل المِلَل في تعامله مع مختلف تحديات وابتلاءات الوجود المكتوبة على كل البشر كما أخبرنا الله تعالى : {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 155] . فكل البشر سيذوقون لا ريب من درجات وأنواع الفقد والخسارة والانكسار والضعف والغربة والفتور والإحباط والحزن والغضب … ، لكن المؤمن بالله الحق لا بد أن يفترق عن غيره في التعامل معها وأثناءها ، وإلا ما كان للإيمان بالله فرق ومعنى عن عدمه ، ولا كان ثمّة فرقان بين حق وباطل في امتحان الوجود الكلّي!
بارك الله فيك .. وحفظك ورعاك وجعلك من المتقين ذو الفرقان
إعجابإعجاب
عرض رائع، تقبل الله وجزاك عنا كل الخير ❤️
إعجابإعجاب