ما معنى الإيمان بالله الحقّ؟

من مقتضيات الإيمان بالله الحق أن يكون هذا الإيمان فرقانًا ، يفرق بين الحق والباطل في النظرية والتطبيق .


مفهوم ودلالة الفرقان

لمّا بعث الله تعالى رسولَه بالرسالة الخاتمة للناس ، جاء الأمر التكليفي بـلفظتي “الصَّدْعِ” و”الإعراض” : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحِجْـر : 94] . فلم يكن الشأن مجرد “الجَهْر” بالدعوة ، كما ساد في أدبيات السيرة والتاريخ ، بل “الصَّدْع” بالدعوة . و(الصَّدْعُ) في اللغة : “الفرق بين شيئين ، ويُستعمل في معنى الشَّق ، كمــا لو تَصَدَّع الشيءُ أي تَشَقق . وعندي صُــدَاع : أي كأنّ رأسِيَ فيها تَشَقّق” [لسان العرب] . وورد في تفسير الصدع فــــي الآية الكريمة : “شُقَّ جَمَاعَتَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ” ، و”فَرِّقِ الْقَوْلَ فِيهِمْ مُجْتَمِعِينَ وَفُرَادَى” .

والمستفاد من ذلك أنّ الحق حين أَنَزله الله الحق من السماء ، لم ينزل ليجمع الناس بل لِيَفْرُقَ بينهم! ليَفْرُقَ بين الناس على أساس التوحيد ، ويَفْرُقَ بين أعمالهم على أساس الإيمان . فتجد نوع الفُرقـان الأول في القرآن : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۖ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُـــــونَ (43) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْــــرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًـــا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَــدُونَ (44)} [الرّوم] ، والمقصود أنّ الناس يَتَصدَّعون يوم القيامة أي يتفرقون فرقتين : المؤمنين والكافرين ؛ {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران : 141] ؛ {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة : 43] .

وفي نوع الفرقان الثاني ، لا يكاد يُذكر العمل الصالح في القرآن إلا مقرونا بالإيمان والعكس : {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد : 29] ، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك : 2] ، {فمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف : 110] . وتأمل في هذا الحديث : {دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ مَعْبَدٍ حَائِطًا ، فَقَالَ : “يَا أُمَّ مَعْبَدٍ ، مَنْ غَرَسَ هَذَا النَّخْلَ أَمُسْلِمٌ أَمْ كَافِرٌ ؟” ، فَقَالَتْ : بَلْ مُسْلِمٌ ، قَالَ : “فَلَا يَغْرِسُ الْمُسْلِمُ غَرْسًا ، فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ ، وَلَا دَابَّةٌ ، وَلَا طَيْرٌ ، إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة”} [مسلم] . وورد في شَرْح النـووي على مسلم  : “فالبناء وإن كان حَسَنًا من كل واحد ، لكنّ معنى القُرْبَةِ والثّواب فيه لا يكون إلا إذا قام به المسلم دون الكافر ، فإنّ الكافرَ ليس من أهل القُرْبَة ، وهو مأمور بتقديمِ الإسلام قبل الاشتغال بالغرس” ا. هـ .

بهذا ندرك أنّ مفهوم “الوَحْدَة” المحمودة التي يدعو لها الإسلام ، هي التي تكون على أساس قواعد “التوحيد” الحقَّة ، لا على الرغم من التعارض معه ، أو على حساب طمس معالمه وتجاهل مقتضياته ودَهْس أصوله!

فرقـان الحق والباطل

وهذا المفهوم مما يجب استحياؤه في عصر اليوم ، الذي ساد فيه تأصيل الحياد في نَفْس المسلم ووجدانه تجاه خطر الكفر بالله ، تحت مسميات التنوع الثقافي والحرية الشخصية ، التي توافق ظاهريًّا فهمنا السطحي لقول الله تعالى : {لا إكراه في الدين} [البقرة : 256] ، كأنّ الله تعالى لم يقل كذلك {لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم : 89] ، أو لم يَصِف الكفار بأنهم أعداؤه : {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت : 28] ، وغيرها من الآيات الدالّة على مدى خطر وقبح وشناعة الكفر بالله تعالى . فتتوازن كِفّتا الميزان بما يمنع تهوين شأن الفرقان وطمس معالمه على هذا النحو .

ونوع الفرقان المقصود في هذا السياق ليس صور المعاملات السلوكية مع غير المسلمين ، كالتهنئة بالأعياد والبدء بالسلام ، فتلك قضايا محسومة في مراجعها . وإنما الكلام بالأساس على القلب والشعور : ما يقع في قلب المسلم ووجدانه تجاه لفظة “الكفر” ، ومدى خطرها وعمق دلالتها عنده ، لا سطحية استشعار الأمر على أنه “مجرّد” اختلاف “ثقافيّ” في الرؤى ، و”بساطة” تقبّله على أنه حريّة شخصيّة بريئةُ السّاحة! بل يجب بعد كلّ ما سبق أن يستقيم في وعي المسلم إدراك أنّ قضية الإيمان والكفر ليست “مجرد” قضية من قضايا الوجود – وهناك من لم يَعُد يصنّفها كذلك أصلًا! – ، بل هي القضية التي لأجلها أقام الله الوجود ، وأرسل الرسل وأنزل الكتب السماوية على مرّ التاريخ ، وهي التي لأجلها يُبعَث الناس للحساب ويقومون لربّ العالمين!  فالشأن جلل وخطير ، ويتجاوز التجريد والبساطة والاستهتار الذي يتعامل به المسلمون معها ، وينقلونه لا شعوريًا بدورهم لغير المسلمين ، فيكونون أوّل المثبّطين عن الدعوة للحق وهم حَمَلتُه . فتأمل المفارقة واعتبِر!

ومن مكامن الفرقان التي ستتكرر الإشارة إليها ، أن يفترق المؤمن بالله الحقّ عن غيره من أهلل المِلَل في تعامله مع مختلف تحديات وابتلاءات الوجود المكتوبة على كل البشر كما أخبرنا الله تعالى : {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 155] . فكل البشر سيذوقون لا ريب من درجات وأنواع الفقد والخسارة والانكسار والضعف والغربة والفتور والإحباط والحزن والغضب … ، لكن المؤمن بالله الحق لا بد أن يفترق عن غيره في التعامل معها وأثناءها ، وإلا ما كان للإيمان بالله فرق ومعنى عن عدمه ، ولا كان ثمّة فرقان بين حق وباطل في امتحان الوجود الكلّي!


مقتطف من كتاب : الأسئلة الأربعة لضبط بوصلتك في الحياة


مقالات متعلقة

عن ظاهرة اليأس والانتحار بين المسلمين

رأيان حول “ما معنى الإيمان بالله الحقّ؟

اضافة لك

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑