الخلاصة في صراع التزكية والهوى

last_minute_of_light_by_aerroscape-d8syv3f

لا تخلو نَفسُ ابن آدم من هوىً ما عاش .

والهوى يشمل كلَّ ما للنفس فيه ميل لحظٍّ أو مصلحة أو متعة أو مزاج أو اشتهاء … إلخ . مثلًا ، في علاقة المحبة والأخوّة في الله : تجد أنه يسهل عليك حسن معاملة صاحب تتفق مع نمط تديّنه وفكره أكثر من قريب لا يعجبك ؛ أو حتى في العبادات : فيطيب لك الإكثار من الذِّكر وتستثقل مشقّة الصيام ، وهكذا! وليس البأس في ذات الهوى ، بل في كونك قائدًا له توجّهه أو منقادًا له يوجّهك . ومكمن الامتحان هو في نهج  تربية وتهذيب الأهواء والميول والأمزجة ، لتصريف النفس وفـق أمر الله تعالى لا وفق أمرها ، دون معاندة عمياء أو معاداة خرقاء من جهة ، ولا اتباعها والانجرار السَّكران وراءها من الجهة الأخرى . لذلك كانت التزكيةُ رحلةَ عمر وجهـادُ النفس رياضةً مستمرة .

ويخطئ من يؤجّل الاشتغال بالتزكية والاستقامة حتى “يفرغ” من اتباع الهوى والمزاج عند مرحلة ما ؛ لأنّ كأس الهوى لا قعر لها ، فالشارب منها لن يرتوي أبدًا بل يزداد عطشًا دومًا ؛ ولو لم يكن في اتباع الهوى إلا اعتياد الإدمان وإدمان العادة لكفـــــى . كــــذلك ، فالتزكية ليست محطة تحطّ عليها ذات مرّة أو تبلغها عند لحظة قرار ، بل هي رحلة دؤوبة من المثابرة والمجاهدة والمدافعة والمصابرة .

هذا و فهم المسلم لطبائع النفس واستيعابه لتقلباتها المحتملة ، وإدراكه لمدى سَعَة واتساع الديانة لكلّ ذلك – إذ كله من مشكاة واحدة كما نكرر دائمًا – يُهدّئ من رَوْعِه ، ويخفّف من شعور الضياع الشامل وأعراض الكساح النفسي والانسحاب الوجداني ، التي ينجرف لها غالب الشباب بسهولة لأدنى عارض من زَلّة أو ذنب أو تحرّك كوامن الشهوة فيهم . فبدل استرداد الزمام وتدارك الأوضاع ، يُمْعِنون في اتباع الهوى بعناد ، والارتماء في أحضان الملذّات بعِمَاية ، والتهاون في فرائض الإسلام أو التمرّد عليها بطيش . كلّ ذلك بدعوى أنّ صاحبها قد ضاع على كلّ حال ، ولا سبيل للعــودة لحِمى الله ، بل لا فائدة ولا خير يرجوهما من نفسه لنفسه!

وأُولى بوادر علاج تلك الظاهرة – التي يجب أن تكون اتضحت بوصولنا لهذا المقام – هي سَعَة الدين لمعاملة ومخاطبة كل أحوال النفس ، وانتظامه لكافة أطوار المؤمن ومشاغله وهمومه في حياته . وهذا الإدراك يُذْكِيَ في المسلم حسَّ الانتماء لعقيدته وإصرار الاستمساك بدينه والاستعصام بحِماه وجدانيًّا وفكريًّا ، بدل أن يتعامل باستغناء مستهتر مع أعظم نعمة يُنعَم بها على ابن آدم أن يولد في حِمَى الإسلام ؛ ويوجّهه للعناية بفهم طبائع خِلْقَته المقصودة من الخالق عند خَلقِه ، بدل أن يُخرِج نفسه من المِلَّة لأدنى عارض من أوهامه! فيُقبِل على تعلّم أحكام ربّه في التعامل مع تلك الأطوار ويلتَزِمَها ما استطاع ، فيكون من المُفلحين بتوفيق الله .


(*) مقتطف من السؤال الثالث ، من كتاب الأسئلة الأربعة لضبط بوصلتك في الحياة

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑