عبادة الله بدافع العقل وقت همود دافع الوجدان

العقل ركن في التقرب لله تعالى والدخول من باب العبودية ، ودونك في القرآن : {أفلا يعقلون} ، {لعلّكم تعقلون} ، {لو كنتم تعقلون} ، {لقومٍ يعقلون} . لكنه لم يُعطَ حقه في تيارات الوعظ والتذكرة ، الموجَّهة للقلب واستثارة الوجدان في غالبها . وتعتمد على نبرتين أساسيتين قد لا يفيد منهما غالب من اعتاد حياة الهوى . وهما :

 

Brain and heart

نبرة الترهيب من الموت : إنّ النفس التي اعتادت طعم أن تعيش كأنها تحيا أبدًا ، لا ينفع معها كثيرًا التوجيه بأن تجتهد في يومها كأنها تموت غدًا . وغاية ما يمكن أن تثيره تلك النبرة في هذه النفس هو حالة من الهلع على ما فات ، والجزع من فوات ما هو آت . فيظل صاحبها مذبذبًا في التقلّب بين الحالين تقلّبًا يمنعه التركيز فيما هو حاضر ، حتى يختم تلك الدوّامة بالجملة الخالدة : “لا فائدة فيَّ ولا أمل منّي!” . وإذا ثابر على العبادة وسط تلك الفوضى ، فلعلّه يؤدّي ما يؤدّي من العبادات وهو غير منتفع بها أو حاضر فيها ، وشبه موقن بعدم قبولها منه أو عدم أهليّته لها!

 نبرة الترغيب بالرقائق : باستنهاض معاني محبة الله ورغبة القرب منه والشوق للقائه ، وما شابهها من الأذواق الإيمانية . ومثل هذه النبرة : إما أن تكون نَفحة مؤقتّة ، فكلٌّ بحسب ما يَصِله من “الشحن” وما يدوم معه ؛ وإمّا أن تكون ذكرى دافعة حقًا ، وهذا يصلح لمن كان في قلبه أَثَارة من حياة سابقة أو بعض حياة متصلة . أمّا القلب الذي طالت عليه الغفلة وأطــال فيها ، فقد لا تتجاوز هذه المعاني عند صاحبه الإدراك العقلي للشعور الوجداني مع الأسف . أو إذا بلغت المعاني القلب ، أورثته الألم والحسرة على الذنب والتفريط ، دون الهمة والباعث على التوبة والتدارك الجادّيْن في الغالب . فيظل صاحبها موزّعًا بين الشعورين ، بما ينعكس في ذبذبة عمله ، بين الجدية ساعة والتلاهي في المقابل ساعات .

هذا وينبغي أن يكون قد اتضح عند المسلم من كل ما سبق بيانه أنه لا دافع أصيل وحقيقي يمكن أن يدفع حيًّا للمثابرة في الحياة على كل تقلبات أحواله ومزاجياته ، إلا دافع حسّ المسؤولية أمام الله تعالى وموقف الحساب لرب العالمين . وهذا الدافع مركوز في الإنسان بالفطرة ، ثم يختلف الفهم والتأثر والتعامل معه وفقًا للإسلام أو عدمه . وتأمل في قوله تعالى : {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب : 4] . أي كما أنه لا يجتمع عُضوَا قلبٍ في جَوف امرئ ، فكذلك لا يجتمع اعتقــــادان متغايران في قلب ، أي كفر وإيمان . وإذا كنا نتكلم في مقام مسؤولية المسلم عن حياته وفيها ، فهو أَوْلَى من غيره بألا يعيش بقلبين بل بقلب واحد مهما تَقلَّبت أحواله .

لذلك فإن لم تستطع أن تذكّي في نفسك شعورك بالاحتياج للانضباط والاتساق مع فطرتك ، عليك أن تعقل حاجتك لذلك وخسارتك بغير ذلك . ففي ذلك الكفاية لتصبيرك على أوّل الطريق حتى تتربى فيك الإرادة فتتأتّى الرغبة .فإذا درّبت نفسك على السماع لصوت العقل أولًا ستجد أنه بالضرورة “يعقِل” النفس أي يلجم حركتها عن الانقياد الأعمى والتام للهوى ؛ أما إذا استمررت في اتباع صوت الهوى وتجاهلت صوت العقل فإن الهوى سرعان ما يَخْمُر العقل أي يغطيه ويُسكِت صوته ، فلذلك يسهل عليه الاستحواذ على كيانك والتحكّم فيه وتسييره . لذلك فانتظار حضور الباعث الوجداني والانطلاق بدافع حرارة الإيمان في مثل هذه الأحوال ليس إلا تسويفًا واهمًا وأملًا زائفًا .


فيما يلي مقترح عملي للتنفيذ الفوري ، يقوم على المدخل العقلي ويهدف للمعاونة في تحقيق النقلة التربوية لنهج الحياة المسؤولة ؛ وهو مُستَلهَم من وصية المصطفى عليه الصلاة والسلام : {اعْقِلْهَا وتوكّل} [الترمذي] .

  • معناه :

– عَقَل الشيء عقلًا : ربطه وأحكم زِمامه لئلا يُفلِت .

– وتطبيقه في هذا المقام : أن تلتزم ما عَلِمته من تكليف على وجهه (عقل العبادة) ، وأن تُحكِم فكرك وتركيزك في الآن واللحظة (عقل الوقت) .

  • وكيفيته المنهجية :

أن تسائل نفسك : “ما الذي يجب علي عمله الآن؟”

فإن كان الجواب : “الصلاة على وقتها” ، “الاعتذار لوالديّ على رفع صوتي” ، “التصالح مع أخي على اتفاق بالنقاش لاحقًا في أسباب الخلاف” … إلخ ؛ أيًّا يكن الجواب الذي يتبادر لذهنك بعد تفكير جاد ، نفّذه فورًا (عقل اللحظة) ؛ بدون نقاش ، بدون انتظار شعور أو رغبة أو أحاسيس ، بدون أي شيء بعد أن عَقلتَ ووَعيتَ وفهمتَ ما وجبَ عليك (عقل العبادة) . فإن لم تجد واجبًا لوقت ما فيما تعلم ، إمّا أن تتعلمه ، أو تنتقل لسؤال : “ما نوع التعبد الذي يمكنني القيام به الآن؟” . فإذا هُديت لتلاوة القرآن ثم أنهيتَ وردك أو اكتفيت ، لا تنتقل لأيّ عمل تالٍ بدون إعمال ذلك السؤال أولًا في عقلك . قد يكون الجواب نوع عبادة تعرفها وإن لم تكن مداومًا عليها أو لك فيها وِرد ثابت ، كالذكر أو الدعاء أو المناجاة ، فقم بها فورًا وعلى الهيئة التي تعلمها لها (وليس تظنها) ، دون أن تحمل همّ هل ستداوم عليها أم لا ، وماذا إذا لم تتمكن من القيام بنفس الكمّ أو الهيئة مستقبلًا ، وما شابه ذلك من ماذا وهل وقد وقد … (وهذا عقل اللحظة) . 

أو قد يكون الجواب عملًا تعمله اعتيادًا ، كمعاونة والدتك أو قضاء حاجات البيت . وقد يكون الجواب حاجة شخصية ، كنوم أو أكل أو غير ذلك من شؤون المعاش . لكنّ الفارق حينها سيكون في البداية والمنطلق . فأنت لم تعمل تلك الأعمال “المعتادة” أو “العاديّة” قبلًا بوصفها جوابًا على سؤال العبودية ، أو باعتبار أنّ فيها وجه تعبّد . وربما فعلت مرة ونسيت بعدها مرات .

أن تسائل نفسك : “كيف أتعبد هذه العبادة؟” أو “كيف أؤدي هذه العبادة؟”

تفكّر في السؤال بصفة شخصية لتهتدي لجواب شخصي . فإذا كان فلانٌ ممن تعرف يقوم الليل في ثلاثين ركعة بثلاثين سورة ، هذا لا يعنيك ، لأنه أجاب على سؤاله وفق حاله ، فكم ركعة ستصليّ أنت؟ ومما يعين على سداد جواب هذا السؤال بنفسك لنفسك ، دون إفراط (غلوّ) أو تفريط (تهاون) ، أن تستحضر القاعدة التي ذكرناها في السؤال الثاني عن الحدود الشرعية والمساحات المشروعة . فإذا علمتَ الحدود الشرعية للعبادة ، أي ما يجوز فيها وما لا يجوز (كالأوقات المنهي عن صلاة النافلة فيها) ، ثم ترك لك الشرع سَعَة الاختيار (كعدد ركعات قيام الليل أو صفحات وِرد القرآن) تفكر في الكيفية والكم اللَّذيْن يحققان لك المقصد الذي ترجوه أنت من عبادتك ، ويكونان أعون لك على حضورك العقلي على الأقل . مثلًا ، أنت تصلّي لتتصل بالله ، فاتْلُ من القرآن ما يخاطب حـالك من مغفرة التفريط أو تفريج الابتلاء … إلخ . وادعُ في السجود بما يوافق حاجاتك ، وهكذا . أو أنك تصلّي على النبيّ عليه السلام بنيّة تفريج الكرب ، أو جلاء القلب ، أو غير ذلك ، فتصلّي مئة مرة أو مئتين أو ألفًا!

ويفيد في التجديد والتنويع أن تنوّع بين طريقتين :

 – أن تتعبد بدون تحديد كمّ أو عدد مسبق ، إلى أن تشعر أنك استنفدت حضورك مع هذه العبادة ، فتنتقل لغيرها . مثال : استغفار مطلق وبتنويع الصيغ : أستغفر الله ، رب اغفر لي ، ربِّ تُب علي ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين … .

 – أو بتحديد كمّ أو عدد مسبق ، بهدف أن تربّي نفسك وتجاهدها على التركيز والحضور فيه حتى النهاية . مثال : تسبيح 200 تسبيحة ، و300 استغفار … .

 ولا تفكـر إلا في الآن :

أفيك نَفَس الآن؟ أما زلتَ على قيد الحياة؟ إذا كان الجواب نعم ، إذن امضِ على هذا النهج . لا عليك من تفريط الساعة السابقة أو إحسان الساعة الحالية ؛ لأنك لا تبني تفكيرك إلا على أساس أنك متعبد تربي نفسك على التعبد .. بما وَسِعك ، بكل صدق ، بكل جدية . هذا كل المطلوب! ولا تشتغل الآن بما يلي هذه المرحلة أو ما سبقها ؛ لأنّ هذا التفكير يجعلك في وضع انتهاء إلى حيث أنت ، والكلام يوجّهك لمنهج يدلك على الغرس ابتداء من حيث أنت . ثم تبني عليه رويدًا رويدًا ، وتربّيه في نفسك لمدى عمرك بإذن الله .

  • وأما التوكـل :

بأن تمضي على النهج موقنًا باطلاع الله على حالك وعلى اجتهادك في تقويم العِوَج في حالك ، ومستبشرًا بفضل من الله ورحمة . وإنّ المولى العظيم الذي ما ودَّعك ولا قَلَاك وأنت في غفلة عنه ، أَوْلَى ألا يودِّعك ويَقلِيك وأنت في طَلَب له! فتنبّه وتأدّب وأحسن الظن بربّك . ومعناه كذلك أن تتحرر تمامًا من بلوى محورية نفسك : أنا أستحق ، أنا لا أستحق ، أنا جيد ، أنا سيء ، معي الحق ، عليّ الحق ، كبريائي تنهاني ، لا رغبة تدفعني ، مزاجي ليس حاضرًا … إلخ . بل اجتهد ألا يغلب في بالك الآن إلا معنى :

 “أنا عبد الله الآن ، هو سبحانه الآمر والناهي لي الآن  ، فحيثما علمتُ له أمرًا أو محبة توجهت ، وحيثما علمتُ له نهيًا أو كراهة ابتعدت . وأرجِع كلما حِدتُ وأنهض كلما وقعتُ ، لأني بوصفي عبدًا لا أملك غير ذلك ، وبوصفي مُوحِّدًا لا ربَّ لي إلا الله . فإذا فررتُ من ربي وأعرضت عن خالقي ، فماذا ومن تبقى لي في الوجود؟ بل ماذا يكون من معنى لي أو للوجود؟!!” .


  • مميزات هذا المنهج :

أولًا : أنك تتربى على معنى حالة العبودية الدائمة ، وتكفّ عن تصورها على أنها أسطورة تغنّى بها الركبان ولا إمكان لتطبيقها . وحالة العبوديّة الدائمة تشمل قبل العبادة وأثناءها وبعدها . فلا تنتظر توجيهًا بعبادة تعرفها ، ولا تمُنَّ على أحد بعمل أدّيته تعبّدًا محتاجًــا لثوابه ، ولا تنسَ أثناء العبادة أنك تتعبد فتضيّع على نفسك معنى العبودية ، بأن تؤديها بآلية التخلص منها والسلام . 

ثانيًا : أنك ستكتشف في الديانة سَعَة لم تكن تخطر لك على بال ، ويتوب الله عليك من نفسيّة الشعور بالخروج من حِمَى الدين ، كلما توجّهت لعمل أو أمر ليس من شعائر الديانة الظاهرة ، كالصلاة والصيام والذكر والقرآن .

ثالثًا : أنك لست بحاجة للاختباء النفسي وراء خطط وأوراق ، تتعب في تحضيرها وتزيينها وتدقيقها ، ثم ينتهي بها المطاف في كلّ مكان في العالم ، إلا في صدرك وفي تطبيقك!

 رابعًا : أنه يُذيب الجليد والصدأ الذي حول القلب على المدى ؛ لأنّ معاني الدين حين تَعقِلها فتُعمِلها في رأسك وتركّز عليها ذهنيًّا بالفهم والتفكر ، لن تسبح هكذا في رأسك والسلام ، بل ستطرق على باب القلب مرة بعد مرة تطالبه بِحَقِّ الدخول . ومع كل طرقة يفتح في قلبك ثغر ، تَنسلُّ من خلاله المعاني الإيمانية تِباعًا بآثارها الوجدانية .


 وهذا منهج حياتي عملي يحتاجه كلّ مؤمن بين الحين والحين ، لمختلف الأوقات التي تعرض له من غفلة أو فتور ، يحتاج وقتها لاستنهاض نفسه منها سريعًا وفورًا ؛ لأنّ المؤمن لا يملك خيارًا مهما بعد عن ربه إلا أن يرجع إلى ربه . وزمام العقل أسرع حضورًا وأقرب منالًا من زمام القلب ، ولذلك كان مناط التكليف الأوّل .


 

مقتبس من كتاب : الأسئلة الأربعة لضبط بوصلتك في الحياة ، للمؤلّفة هدى عبد الرحمن النمر 

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑