عن أثر الخطأ في نفس المُخطئ

إذا تركنا جانبًا ملابسات الظروف واختلاف طبائع الناس في المعاملات ، وتأملنا بتجرد أثر الخطأ على نفسية المُقِر بخطئه ، سنجد أنهما إجمالًا أثران :

fotolia-com-dodoardo.jpg

الأول : فورة غضب وعصبية انفعال . لماذا يغضب المخطئ إذا كان مُقرًّا بخطئه؟ ثمّة احتمالان هنا :

  • إما أنّ المخطئ عزّت عليه مخالفة سلوكه لما يقتضيه اعتقاده ومبادئه ، فغضبه ناجم عن صدمة تفاجؤ ونوع إحباط من سوء تصرّفه . وهذا شعور محمود إذا صحّ واتّزن قدره سيقود صاحبه بالضرورة للأثر الثاني المحمود والمقصود من الخطأ .
  • أو أن المخطئ كَبُر عليه صدور مثل ذلك الخطأ من “مِثلِه” فضلًا عن مواجهته أو مصارحته به على نحو معين . وهذا شعور مذموم وأصله بذرة استكبار في نفس صاحبها ، تلتفت لشخصه لا لبشريته ، ولفوقيته على الخطأ لا استصحابه له . والغالب أن مثل تلك الشخصية عامرة بالآفات الباطنة والتصورات الخاطئة وسوء تقدير حدود الأخلاق وموازين الانفعالات ، ولا تواجه ذلك الباطن لغفلة أو تغافل ، خاصة إذا كان سياق حياتها ومعاملاتها سطحيا أو لا يحكّ فيها ذلك الباطن . ولذلك تُصدَم صدمة تجعلها تلقائيًا ودون تفكير تدفع الخطأ الواحد عن نفسها بألف فوقه ، فتتعالى بدل أن تتعلم ، وتسخط على نفسها التي أوقعتها في ذلك الحرج بدل أن تحاورها لتربّيها ، وتحقد على الطرف الذي استفز فيها ذلك التفريط ، ، أو تجزع لاهتزاز صورتها  بدل الالتفات لإصلاح بحقيقتها… إلخ ، والأدهى أن تمعن  في هذا المسلك المتكبر ظنًّا أنها “تعاقب” نفسها به! لأنه مسلك متلبس بلباس السخط وعدم الرضا ، والتكبر يعني الرضا من المتكبر بما هو عليه! وليس الأمر كذلك ، فالكِبر يكتسي بالسخط كما الرضا ، وفي نفس كل بني آدم بذرة كبر لها ألف صورة وألف مدخل ، ولا يدحرها على الحقيقة إلا كسوة العبودية وتربيتها ، كما يلي .

الأثر الثاني: انكسار ندم وحُرقة أسف ، ناشئتان من إقرار المخطئ بخطئه مع تقبله لحقيقة أن الخطأ وارد من كل بني آدم مهما اجتهدوا ، وإدراكه أن الخطأ بحد ذاته ليس خطأ ، وأن ميدان الامتحان الأصعب هو التجاوب مع ما بعد ارتكاب الخطأ ، ، فالتوقف عند مجرد التشنج والغضب والوحشة ليس خيارًا مقبولًا ولا مطروحًا حتى . وصاحب تلك النفسيّة لا يلج في الجدال والحجاج عن نفسه ، ولا يطيل أمد التشاحن والتحارب الداخلي ، بل يصرف ذلته وكسرته أولا لربه تعالى استغفار واستعفاء ، ثم يعقل لجام نفسه ويفكر في كيفية التصحيح والتقويم ابتغاء مرضاة الله وتصديقا لتوبته ، وفق ما بيّنه ربه في مختلف أحوال الخطأ وأطراف علاقته . ومن كان هذا نهجه تتربى نفسه ويشتد عود نفسيّته ومتانتها ، فيتجاوز الأخطاء تجاوزًا محمودًا بناء ، بغير عقد نفسية وحروب كونية وانفعالات جنونية .

لذلك كان خير الخطائين التوابون .. لا الساخطون ولا الصائحون ولا الغاضبون ولا النائحون ولا الدراميّون ولا الجالدون للذات … إلى آخر صور التفريغ الخاطئة في التعامل مع الخطأ ، والتي لا تخلو جميعًا من بذرة استكبار ، سواء أدركها صاحبها من نفسه أو لا . ذلك أن باب التوبة لا يفتح إلا لمن طابت نفسه بحقيقة العبودية ، وربى نفسه على إساغة طعم الذلة في الله ولله وعلى النحو الذي يرضاه الله ويأمر به . فثمة نفوس مهينة تتذلل للخلق فوق ما يُحمَد بدعاوى ظاهرها محمود كالحب والتقدير مثلًا ، ثم تستعز على الخالق وتأنف حيث أُمِرَت بالتذلل وخفض الجناح ولو لمن لا تهوى ، فحالها كحال النفوس المستكبرة في مخالفة مقتضى العبودية والبعد عن مرضاة الله ، وإن تمسّحت بمسميات وشعارات فيه .

إن الله تعالى بيّن للعباد ما يرضيه منهم ومنهجه لهم ، فمن صدق في طلب الله أخذ بما بيّن الله على ما بيّن ، وربّى نفسه على أدب الامتثال لربّه في كل أطواره . أما من يتبع مزاج هواه وتقلبات نفسه وظنون فكره .. فهِجرته إلى ما هاجر إليه ، على شرط أن ينسب مأساة حاله لنفسه ونكد عيشته لمنهجه في المعيشة . هذا والمؤمن خطاء ، ضعيفًأ كان أم قويًّا . وإنما مكمن القوة والضعف في نهج معاملة أخطاءنا ، الذي ينعكس بالضرورة على نهج استقبالنا لأخطاء الآخرين .

وما من ذنب إلا وجعل الله منه مخرجًا ما دامت حياة ، فمن الخطائين من يطلب المخرج من الذنب ، ومن الخطائين من يذنب بالخروج من الطلب .. والعاقبة للتوابين .

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑