في فيلم ديزني الكلاسيكي البديع “الأسد الملك” ، يقابل سيمبا تيمون وبومبا في مرحلة فاصلة وقاصمة في حياته . وعندما يسألانه عما جرى معه يكون توصيفه لحاله :
– فعلتُ فعلة نكراء
-لا أود الحديث عنها
– لا يمكن تصحيحها
– لا معنى لأي وجهة في الحياة بعدها
بناء على تلك المعطيات ، يعلم تيمون سيمبا فلسفة مفادها أن يرمي الماضي وراءه ، ويدير ظهره للعالم كما أدار العالم ظهره له ، ويتبنى نهج حياة يخلو من أي مشاكل أو تعقيدات ، لأنه بلا قوانين أو مسؤوليات . وهذه هي حياة الهاكونا ماتاتا!
وعبارة “هاكونا ماتاتاHakuna Matata ” تعني في اللغة السواحيلية “لا تحمل هما No worries” وما في معناها . ومع أن المعنى في حد ذاته لا بأس فيه ، إلا أن الفيلم يعرض لتطبيقها الخاطئ بوصفها هربا من الإشكال لا حلا له ، ووإهدارا لمسؤوليات تعلقت بالذمة ولا فسحة لخيار التفريط فيها . (من اللافت أن كلمة المسؤولية تتكرر عدة مرات في فيلم كرتوني موجه للأطفال في سنة 1994 ، أما اليوم فتلك مفاهيم ورسائل منقرضة في النتاج الإعلامي عامة ، ذي ثقافة التوحد حول الذات والمزاج والهوى وتبلد حس المسؤولية وطمس صوت الضمير والحط من قدر الواجب …) .
ينغمس سيمبا بكليته في حالة الهاكونا ماتاتا حينا من الزمان ، ويبدو سعيدا بالنهج الجديد حتى يظهر في مشهد مدى عدم استقراره الداخلي ، لتبدأ المرحلة الفاصلة الثانية في حياته وتقويم حاله . ويمكن تقسيم مراحل الصراع ومعالم جلاءه كما يلي :
1) موت موفاسا : الطعنة النجلاء التي تفتت قلب الشبل الصغير ، والطامة الكبرى التي تقلب كيانه كله .
2) لقاء تيمون وبومبا : النشوة المبدئية بخيار التجاهل التام والهروب الكلي ، لا من مواجهة عواقب ما جرى فحسب ، بل من تحمل حِمله أصلا (الذي سيعني بالضرورة نوع مواجهة عند نقطة ما مهما تأجلت) .
3) لقاء نالا : بدء قلقلة غطاء الغضب المكبوت في نفس سيمبا ، وشدة العناد الخارجي لأي محاولة ذكر أو تذكير بالمدفون ، للتغطية على النزاع الداخلي بين عدم الرضا بحالة الهاكونا ماتاتا وعدم القدرة كذلك على الفكاك منه!
4) طيف موفاسا : أولى معالم انجلاء الغمة ، بالمكاشفة أخيرا والبوح صراحة بما جثم على الصدر وفيه ، فيتهيأ سيمبا نفسيا للنظر فيما كان يهرب منه .
5) ضربة رفيقي : تأتي ضربة القرد رفيقي في الختام لتعلم سيمبا الخلاصة عمليا . يضرب رفيقي سيمبا على رأسه بالدُّرة التي يحملها ، فيصيح فيه سيمبا :
– لماذا فعلت ذلك؟
– لا يهم ، لقد صارت شيئا من الماضي!
– نعم ، لكنها ما زالت تؤلمني!
– حقا! إن الماضي يمكن أن يظل مؤلما . لكن ما أفهمه هو إما أن تهرب منه .. أو تتعلم منه .
***********
لم تنته حالة الهاكونا ماتاتا مع انتهاء فيلم سيمبا ، بل هي اليوم أكثر انتشارا وأرسخ جذورا في نهج حياتنا عما كانت عليه وقت بثه :
– فكل منا في حياته فزاعة أو فزاعات ما . يمكن أن تكون بصفة عامة إحدى هذه الثلاث أو مزيجا منها : خطأ في الماضي لم تعالجه معالجة تجعله حقا “يمضي” ، أو حلما في الحاضر تستثقل جهد زرعه وتستعجل لذة حصاده ، أو أملا في المستقبل تتوجس منه أكثر مما ترجوه ، أو هما/إشكالا ما التصقتَ به فالتصق بك في ماضيك وحاضرك ومستقبلك معا . تعددت المظاهر وجوهر الماتاتا واحد!
– والغالب ينجرف للهرب اللاإرادي من طيف تلك الفزاعة/الفزاعات في حياته . وأقول اللاإرادي لأن الهرب قد يكون أحيانا سياسة مستحسنة حين يكون مدروسا ومقصودا من صاحبه ، ويتخذ وقتها مسميات أدق : كالتجاوز أو التغاضي أو التعايش .. إلخ . أما الهرب المذموم فهو مجرد تولية الظهر والفرار إلى أرض الهاكونا ماتاتا ، غير منتبه أنك ستجر لا محالة أذيال فزاعاتك معك . وكلما أمعنت في تولية ظهرك ، أمعنت في الارتماء فوقه وزادت وطأة ثقلها عليه ، لتشعرك بوجودها وترغمك على الالتفات لها .
وكذلك لن يعدو الحل عمق الحقائق التي بسطها الفيلم ببساطة :
– حقيقة نفسك :
أصر سيمبا على تناسي كل ما فات بسبب ما وقع منه ، حتى كاد ينسى في خضم ذلك حقيقة نفسه هو ، كما نبهه طيف والده . كذلك قد يقع مع كل منا ما يغير عليه نفسه ويغير نفسه عليه (تغييرا مذموما في نفس صاحبه) ، حتى يحسب أن هذا الغير صار هو ، وأنه لا سبيل للعودة لأصل نفسه أو حتى لإنشاء أصل جديد لنفسه . وحقيقة نفسك أو الأصل الذي عليه نفسك ليسا فحسب هيئة كنت عليها في الماضي ثم حِدت عنها حينا فتعود لها من جديد ، بل يمكن أن تكون ما تشعر في قراراة نفسك أنك يجب أن تكونه الآن ، أو ما تتوق في أعماق نفسك لتكونه مستقبلا . بل يكفي أن تشعر بعدم الاتساق مع الحال التي تنساق وراءها لتدرك أن هذا ليس أنت ، مهما يكن ما أدى بك إليه .
– حقيقة مكانك الوجودي :
يؤنب موفاسا سيمبا بقوله : “إنك أكثر مما صرت عليه You are more than what you’ve become” . ولعل كلا منا قد ذاق في مرحلة ما قدرا من ذلك الشعور ، بأنه يمكن أن يكون أكثر أو أفضل مما هو عليه ، وكانت ترجمة تلك الكثرة أو ذلك الفضل عنده : المزيد من الإنجاز أو المال أو سعة قاعدة المعجبين أو بسطة في العلم أو الجسم .
والحق أن معيار الحكم الحق عند هذا المفترق ، هو مدى شعورك بالجودة الداخلية ، أي بالاتساق مع مبادئك وترجمتها في حياتك ، واستثمار طاقاتك التي تعرفها بالفعل ، وتجربة تلك التي تتراءى لك ، حتى تقف من مجموع كل ذلك على حقائق نفسك وحقائق الأشياء من حولك .
يجب أن تتخذ مكانك في دورة الحياة *، وإلا ستحيا دائما في داخلك معاكسا للحياة ، مهما بدا ظاهرا أنك تتمتع بالمعيشة . وبوصفك مسلما ، فإنك تعلم يقينا مكانك في تلك الدورة : بشرا عبدا ، ويبقى أن تتعلم كيفية التحقق بتلك المكانة على وجهها .
* You must take your place in the Circle of Life
– حقيقة مسؤوليتك :
إن الفزاعات التي نهرب منها ليست فزاعات حقيقية ، بل هي انعكاس لتصورنا نحن عن أيّ أمر “جاد” ، في حياة بُنيت على المسؤولية عن الجد كما المسؤولية عن اللهو . وإنما الإشكال في النفوس التي أُنشئت في اللهو إنشاءً فهي في الجد لا تكاد تُبين!
– حقيقة القرع :
عندما تسأل نالا سيمبا عن سر تغيير موقفه ، يرد عليها : “لقد قَرَعني (ضربني) أحدهم بالمنطق” ، في إشارة لضربة القرد رفيقي . وتلك الضربة عميقة المغزى الرمزي كما الوقع الفعلي . إن الانجراف لحالة الهاكونا متاتا في جوهره رد فعل عاطفي نفسي ارتباكي ، لذلك لا ينفع انتظار تغير الحال أو تعدله من تلقاء العاطفة والوجدان ، بل يكون المفتاح غالبا من تلقاء العقل . والعقل ذو حكمة ونظر وصبر ، وهو أقدر من القلب على القرع حين يلزم القرع . ومن لم يذق من نفسه وجع القرع مرة ، ذاق أوجاع الندم والحسرة مرارا .
اكتب تعليقا