مقترح لتدارك ما بقي من رمضان ومن العمر

– بإذن الله مع بداية رمضان أضبط نفسي .

– بإذن الله بنهاية العشر الأول أكون دخلت في الأجواء وأضبط نفسي!

– بإذن الله بحلول الأواسط أكون ضبطت نفسي!!

– بإذن الله في العشر الأواخر أشد الحيل وأضبط نفسي!!!

 ها قد بدأت الأواخر .. فما الذي سيجد ليجعلنا نحقق ما لم نحققه في الأوائل؟

ماذا في ذلك الحوار غير الرخاوة؟ وماذا في مثل تلك الأمنيات غير التمني؟

إننا لا نؤمن بالخوارق في تعاملنا مع تغير الأحوال من جهة الله تعالى ، فحين يقال لنا إن الابتلاء سينتهي والحزن لا يدوم والشدة تزول وإن كل شيء يغيره الله في لحظة بأمره ، تُهَز الرؤوس هزة من يعرف هذه الحقائق “الأسطورية” ، لكنه لا يوقن أن المقادير تجري كذلك فعلا . أما في تعاملنا مع نفوسنا ، فنحن نعتقد في الخوارق ، بل نجزم بها ، بل نتوقعها ، مع أنها أسطورية تماما! لأن الأصل في تغيير حال النفس أنه يبدأ ببذرة جادة صادقة – أي بذرة جادة صادقة – من صاحبها ، ثم يُرَبّيها ، فيُربيها الله له .

على كل حال ، وقع ما وقع ، ومضى ما مضى ، فكيف العمل الآن لتدارك ما بقي؟

  • لمن هذا المقترح؟

هذا النهج المقترح موجه لكل نفس لم تنتفع بنبرة المواعظ المتداولة في هذا السياق ، وأشهرها :

– نبرة الموت : لأن النفس التي اعتادت طعم أن تعيش كأنها تحيا أبدا ، لا ينفع معها كثيرا التوجيه بأن تجتهد في هذه العشر كأنها تموت بعدها . إذ غاية ما يسببه ذلك لهذه النفس هو حالة من الهلع على ما فات ، والجزع من فوات ما هو آت . فتظل تتقلب بينهما تقلبا يمنعها التركيز فيما هو حاضر ، حتى تختم تلك الدراما بالجملة الخالدة : “لا فائدة في ولا أمل أبدا!” . وهكذا يقضي صاحبها أيام الفرج وهو في قمة الضيق ، وأيام الاستبشار وهو في أشد الابتئاس ، ويؤدي ما يؤدي من العبادات وهو غير منتفع بها أو حاضر فيها ، وشبه موقن بعدم قبولها منه أو عدم أهليته لها!

– نبرة اللحاق : وخلاصتها تكويم كل أصناف العبادات التي تعرف أو لا تعرف ، والتي تعبدت بها قبلا أو لن تتعبد ، خلال هذه العشر . فتعبد الله بذلك عبادة بلايين السنين مقدما ، وهذا مضمون بعملية حسابية تضرب الأجر × عدد الأيام × عدّاد البركات الإلهية (!!) . لذلك كل ما عليك بغض النظر عنك أن تعبئ “كيس حسناتك” بأكبر كم وأكثر عدد ومن كل نوع .

هذه النبرة قد تبدو ملائمة في البداية لكثير من النفوس . لكن بسبب الخلل التربوي فيها وفي النفس التي تطبقها ، إما أن يمل صاحبها بعد بضعة أيام وقبل نهاية العشر ، فيترك الكل جملة كما انهال عليه جملة . أو في أحسن الأحوال تثمر فيه المثابرة الصماء على تكويم “كتل” الأعمال الحسنة ، تكويمَ من يعد الأيام والساعات ليتخلص من “كبسة” أثقالها ، ويتحرر لشؤون لهوه ورغائب هواه وهو شاعر بحلاوة دفع ثمن تمتعه مُقدما ، واستحقاقه التام لأوسع الراحة بعد أضيق التعب! فلا عجب والحال كذلك أن يخرج من رمضان ومن العبادات نفسها معا بعد انقضاء هذا الماراثون ، فكأنما كانت العبادة موسما وانتهى ، كحال المثل القائل : “ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله”!

– نبرة السباق : بالدخول في مسابقات جماعية بعدد الختمات أو الركعات ، والتنافس مع قريب أو صديق لشحذ الهمم . وهذه من أردأ المنهجيات فهما وتطبيقها ، في رمضان وفي غيره ، ولهذا السياق ولما عداه . وقد تم تفنيدها في كتابات سابقة ، فلا أطيل في التعقيب عليها هنا .

– نبرة الرقائق : باستنهاض معاني محبة الله ورغبة القرب منه والشوق للقائه ، وما شابهها من الأذواق الإيمانية . ومثل هذه النبرة : إما أن تكون نفحة مؤقتة ، فكل بحسب ما يصله من “الشحن” وما يدوم معه ؛ وإما أن تكون ذكرى نافعة دافعة حقا ، وهذا يصلح لمن كان في قلبه أثارة من حياة سابقة أو بعض حياة متصلة . أما النفس التي طالت عليها الغفلة وأطالت فيها ، فقد لا تتجاوز هذه المعاني فهمها العقلي لشعورها الوجداني مع الأسف ، أو إذا بلغت القلب أورثته في الغالب الألم والحسرة على الذنب والتفريط ، دون الهمة والباعث على التوبة والتدارك الجادين . فيظل صاحبها مذبذب القلب بين الشعورين ، بما ينعكس في ذبذبة عمله ، بين الجدية ساعة والتلاهي في المقابل ساعات .


  • شرح المنهج المقترح :

– وإذن ، ما النهج المقترح في مثل هذا الوقت المبارك والنادر والضيق معا؟

= اعقلها ، وتوكل!

– ما معنى هذا؟ وكيف يكون؟

– عَقَل الشيء عقلا = ربطه وأحكم زمامه فلا يفلت

– ومعنى “اعقلها” هنا : اعقل الوقت ، واعقل العبادة . أي اعبد لله بالعقل ، وادخل في العبودية من باب العقل ، وأحكم فكرك وتركيزك في عبادة الآن واللحظة .


– وكيفيته :

1) أن تسائل نفسك : “ما الذي يجب علي عمله الآن؟”

فإن كان الجواب : “الصلاة على وقتها” ، “الاعتذار لأمي على رفع صوتي أو سوء أدبي” ، “التصالح مع أخي” (ولو على اتفاق النقاش لاحقا في أسباب الخلاف) … إلخ ؛ أيا يكن الجواب الذي يتبادر لذهنك بعد تفكير جاد ، نفذ فورا . بدون نقاش ، بدون انتظار شعور أو رغبة أو أحاسيس ، بدون أي شيء بعد أن عقلت ووعيت وفهمت ما وجب عليك (عقل العبادة) . وبدون ثانية تأخر واحدة (عقل اللحظة) .

فإن لم تجد واجبا فيما تعلم ، تنتقل لسؤال : “ما نوع التعبد الذي يمكنني القيام به الآن؟” . فإذا هُديت لتلاوة القرآن وأنهيت وردك – أو اكتفيت – ، لا تنتقل لأي عمل تالٍ بدون إعمال ذلك السؤال أولا في عقلك . قد يكون الجواب نوع عبادة تعرفها وإن لم تجربها ، كالذكر أو الدعاء أو المناجاة ، فقم بها فورا وعلى الهيئة التي تعلمها لها (وليس تظنها) ، دون أن تحمل همّ : هل ستداوم عليها أم لا ، وقد لا تتمكن من نفس الكم او الهيئة مستقبلا ، وقد وقد … (وهذا عقل اللحظة) . أو يكون الجواب عملا تعمله اعتيادا ، كمعاونة والدتك أو قضاء حاجات البيت . لكن الفارق حينها سيكون في البداية والمنطلق ، فأنت لم تعمل هذه الأعمال “المعتادة/الروتينية” قبلا بوصفها جوابا على سؤال العبودية ، أو ربما فعلت مرة ونسيت بعدها مرات . وقد يكون الجواب حاجة شخصية ، كاستحمام أو نوم أو أكل (وبالمناسبة ، هذه الثلاثة ينبغي أن تكون هي حاجات الاستجمام الوحيدة التي تؤدي لنفسك حقها منها في هذه الفترة ، على قدر الحاجة ودون أي قدر من الزيادة فيها ، بدافع الرغبة أو الاشتهاء . ولا عبرة الآن بكونها مباحة ، لأن الكلام على تربية نفس لم تتعود الضبط كما ينبغي) .

2) أن تسائل نفسك : “كيف أتعبد هذه العبادة؟” أو “كيف أؤدي هذه العبادة؟”

تفكر في السؤال بصفة شخصية لتهتدي لجواب شخصي . فإذا كان فلان ممن تعرف يقوم الليل في ثلاثين ركعة بثلاثين سورة ، هذا لا يعنيك ، لأنه أجاب على سؤاله وفق حاله . ومما يعين على سداد جواب هذا السؤال دون إفراط (غلو) أو تفريط (تهاون) ، أن تفكر في الكيفية والكم اللذين يحققان لك المقصد الذي ترجوه من عبادتك ، ويكونان أعون لك على الحضور العقلي على الأقل . فأنت تصلي – مثلا – لتتصل بالله ، فاتل من القرآن ما يخاطب حالك من التفريط أو الابتلاء … إلخ ، وادع في السجود بما يوافق حاجاتك ، وهكذا . أو أنك تصلي على النبي عليه السلام بنية تفريج الكرب ، أو جلاء القلب ، أو غير ذلك ، فتصلي مئة مرة أو مئتين أو ألفا!

ويفيد أن تتنقّل بين طريقتين :

– أن تتعبد بدون تحديد كم/عدد مسبق ، إلى أن تشعر أنك استنفدت حضورك مع هذه العبادة ، فتنتقل لغيرها . مثال : استغفار مطلق وبتنويع الصيغ : أستغفر الله ، رب اغفر لي ، رب تب علي ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين …

– أو تحدد كم/عددا مسبقا ، بهدف أن تربي نفسك وتجاهدها على التركيز والحضور فيه حتى النهاية . مثال : تسبيح 200 تسبيحة ، و300 استغفار …

واذكر أن الله أكبر ، فلا تتحجر أنت في قليل يضيع منك أبواب البركات ، أو كثير يشتتك عنها ويغلقها دونك!

3) ولا تفكر إلا في الآن :

أفيك نَفَس الآن؟ أما زلت على قيد الحياة؟

إذا كان الجواب نعم ، إذن امض على هذا النهج . لا عليك من تفريط الساعة السابقة أو إحسان الساعة الحالية ، لأنك لا تبني تفكيرك إلا على أساس أنك متعبد تربي نفسك على التعبد .. بما وسعك ، بكل صدق ، بكل جدية . هذا كل المطلوب!

ولا تشتغل الآن بما يلي رمضان أو ما سبق رمضان ، بل لا تفكر حتى بعقلية أن هذا نهج رمضان ، لأن هذا تفكير يجعلك في وضع انتهاء إلى حيث أنت ، وهذا منهج يدلك على غرس ابتداء من حيث أنت . ثم تبني عليه رويدا رويدا ، وتربيه في نفسك لمدى عمرك بإذن الله .

4) وأما التوكل 

فهو أنك تمضي على النهج موقنا باطلاع الله على حالك وعلى اجتهادك في حالك ، ومستبشرا بفضل من الله ورحمة . وإن المولى العظيم الذي لم يودّعك ولا قلاك وأنت في غفلة عنه ، أولى ألا يودّعك ويقليك وأنت في طلب له! فتنبه وتأدب وأحسن الظن بربك .

ومعناه كذلك أن تحرر تماما من بلوى محورية نفسك : أنا أستحق ، أنا لا أستحق ، أنا جيد ، أنا سيء ، معي الحق ، علي الحق ، كبريائي تنهاني ، لا رغبة تدفعني ، مزاجي ليس حاضرا … إلخ . فلا يكن في بالك الآن إلا عقل معنى : أنا عبد الله الآن ، هو سبحانه الآمر والناهي لي الآن  ، فحيثما علمت له أمرا أو محبة توجهت ، وحيثما علمت له نهيا او كرها ابتعدت . وأرجع كلما حِدت ، وأنهض كلما وقعت ، لأني بوصفي عبدا لا أملك غير ذلك ، وبوصفي موحدا لا رب لي سواه . فإذا فررت من ربي وأعرضت عن خالقي ، فماذا ومن تبقى لي في الوجود؟ بل ماذا يكون من معنى للوجود؟!!


  • مميزات هذا المنهج :

وميزة هذا المدخل الأولى أنك تتربى على معنى حالة العبودية الدائمة ، وأنها ليست أسطورة تغنى بها الركبان ولا إمكان لتطبيقها . والدوام يشمل قبل العبادة وأثناءها وبعدها ، فلا تنتظر توجيها بعبادة تعرفها ، ولا تمن على أحد بعبادة أديتها محتاجا لثوابها ، ولا تنسى أثناء العبادة أنك تتعبد فتضيع على نفسك معنى العبودية ، بأن تؤديها بآلية التخلص منها والسلام .

وميزته الثانية أنك ستكتشف في الديانة سعة لم تكن تخطر لك على بال ، ويتوب الله عليك من نفسية الشعور بالخروج من حيز الملة والديانة كلما توجهت لعمل أو أمر ليس من شعائر الديانة الظاهرة كالصلاة والصيام والذكر والقرآن .

وميزته الثالثة أنك لست بحاجة للاختباء النفسي وراء خطط وأوراق ، تتعب في تحضيرها وتزيينها وتدقيقها ، ثم ينتهي بها المطاف في كل مكان في العالم ، إلا في صدرك وفي تطبيقك!

وميزته الرابعة والأكيدة بإذن الله على المدى ، أنه يذيب الجليد والصدأ الذي حول القلب . لأن معاني الدين حين تَعقلها فتعملها في رأسك بالتركيز الذهني والفهم والتفكر ، لا تسبح هكذا في رأسك والسلام ، بل تطرق على باب القلب مرة بعد مرة تطالبه الإذن بالدخول ، ومع كل طرقة يفتح لقلبك ثغر تنسل من خلاله المعاني الإيمانية والقلبية .

لذلك فهذا منهج حياتي عملي يحتاجه كل مؤمن بين الحين والحين ، لمختلف الأوقات التي تعرض له من غفلة أو فتور ، يحتاج وقتها لاستنهاض نفسه منها سريعا وفورا . لأن المؤمن لا يملك خيارا مهما بعد عن ربه إلا أن يرجع إلى ربه . وزمام العقل أسرع حضورا وأقرب منالا من زمام القلب ، ولذلك كان مناط التكليف .

والعقل ركن في التقرب لله تعالى والدخول من باب العبودية ، لكنه لم يعط حقه في تيارات الوعظ والتذكرة المتوجهة للقلب في غالبها . ودونك في القرآن : “أفلا يعقلون” ، “لعلكم تعقلون” ، “لو كنتم تعقلون” ، “لقوم يعقلون” . ولو لم يكن في هذه العبارة إلا أنها صياغة نبوية ، لكفى بها بركة .

*******

فيا أيها المؤمن بالله ، مهما كنت وأينما كنت وعلى أي حال تكون :

(اعقلها ، وتوكل) 

وسترى بأمر الله خيرا .

رأي واحد حول “مقترح لتدارك ما بقي من رمضان ومن العمر

اضافة لك

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑