من منا لم يقرأ قصة من القصص الملهمة لمن نجحوا في تغيير حياتهم وأنفسهم للأفضل؟ لتلك القصص مذاق جميل لكنه أحيانا مضلل ، لأنها تصلنا في نسختها المنقحة ، التي نشهد فيها معالم الانتقالات والتحولات بين البدايات والنهايات ، بدون التفصيل الوافي في “الكيفية” التي حصلت بها “النقلة” ، فيظل الأمر مبهما ويظل الإلهام مبهرا إبهارا يعمي عن الانتفاع به حقيقة!
لهذا السبب قامت جامعة هارفارد بإصدار كتاب إرشادي في 2009 ، بعنوان : “المناعة ضد التغيير : كيف تتغلب عليها وتستكشف طاقاتك الكامنة” ، ليلقي الضوء على التفاصيل الصغيرة لعملية التغيير ، بالإجابة عن 3 تساؤلات رئيسية :
- لماذا التغيير من الصعوبة بمكان بحيث تخفق أغلب محاولاتنا في السعي نحوه؟
- كيف نحقق التغيير المنشود على المستوى الشخصي؟
- كيف نساهم في التغيير على المستوى الجماعي؟
يرتكز الفصل الأول على شرح الركن الأساسي في عملية التغيير ، وهو مدى تطور النمو الإدراكي للدماغ وثراء أبعاده الفكرية ، وبالتالي سعة تصوراته وطموحاته في الحياة . هذا المدى من الثراء والتطور أحد الأسباب التي تفرق طاقات التغيير بين الناس ، وسرعة تأقلمهم مع الفرص الجديدة في الحياة .
ويعرض الكتاب المراحل الثلاثة التي يمر بها دماغ الفرد أثناء ذلك التطور ، ومكامن القصور فيها :
- مرحلة المواكبة الاجتماعية : وفيها تتشكل عقليتك وفق ما يمليه عليك المحيط الاجتماعي ، ويغلب فيها الانتباه للرأي الجماعي .
- مرحلة الصياغة الذاتية : وفيها تفرّق بين أفكارك الشخصية وآراء الآخرين ، وتتشكل لك رؤاك التي ربما تختلف معهم . وتنمو عندك طاقات حل المشاكل وتحليل المواقف والاتساق مع منظومتك القيمية . وهذه بداية تملّكك لزمام حياتك بنفسك .
- مرحلة التغيير الذاتي : وهذه أعلى المراحل ، حيث لا تقتصر على فلترة ما يصلك من معلومات فحسب ، بل إن الفلتر نفسه يخضع للتقويم ، فتسعى لطلب المعرفة بنفسك وتعيد مراجعة وتقويم ما استقر عندك من مفاهيم وتصورات لعلك تظن أنها تخصك لكنها ليس – حين تتفكر – إلا أثر ترسبات مما ألقي عليك أو أُشْربته على المدى بغير وعي
ولا يترقى الناس في تلك المراحل إلا بالتعرض لمستويات عالية من خبرات أو صراعات أو تحديات حياتية ، تجبرهم على مواجهة قصور معارفهم ومحدودية خبراتهم ، بما يلجئهم لتقويم ذلك بتوسيع معارفهم أو تعديل تصوراتهم . وبالتالي فمن ينتهجون سبيل القوالب الجاهزة ومسايرة التيارات السائدة أبعد الناس عن شحذ تلك الملكات أو تنميتها فيهم .
ويلفت الكتاب القارئ لمستويين من التغيير :
– التغيير التقني : وفيه تجابه بالتحديات التي تتطلب اكتساب أو تغيير مهارات أو تقنيات معينة على المستوى السلوكي ، مثل المهارات والإجراءات التي يكتسبها الجراحون والطيارون باستمرار ، دون أن يحتاجوا لإعادة النظر في ذواتهم .
– التغيير التكيفي : وهي التحديات التي لا يمكن حلها بطرق خارجية أو بتعليم فيزيائي ، بل تتطلب تغيرا على المستوى الداخلي للفرد ، على مستوى العقلية أو الوجدان .
وبناء عليه ، ندرك كيف أن مطالب التجديد والتغيير في الحياة ، أو ما يمسى بالحرب على الروتين ، لا تتطلب دائما حركة “فيزيائية” بسفر أو تغيير مكان عمل ، بل قد يكون المطلوب حركة ذهنية أو وجدانية ، وذلك أصدق ما يكون في تعاملنا مع ثوابت حياتنا ، كشعائر الديانة وعباداتها التي لا ابتداع فيها عما كانت عليه وتظل ، وإنما التجديد في روحها واستشعارنا وعمق فهمنا لها . وكوالدينا وأهلينا الذين لن نستبدلهم بحال بدعوى التغيير أو التجديد!
ويأتي الجزء العملي كإضافة بديعة في الكتاب ، بعنوان ( خريطة المناعة Immunity Map ) ، الذي يوجه الفرد لكيفية تسليط الضوء على معوقات التغيير في حقه على المستوى الشخصي ، بالنهج التالي :
على ورقة بيضاء ، ارسم جدولا بثلاثة أعمدة كما يلي :
- العمود الأول : التغييرات
- أهم أهداف التغيير التي تطمح لها بشدة ، وكن محددا وموجزا في صياغتها .
- مثال : إنقاص وزني بقدر 5 كجم شهريا
- العمود الثاني : المعاكِسات
- السلوكيات والأعمال التي تفعلها فتؤدي لنتائج عكس ما تود تغييره
- مثال : الأكل فوق الشبع ، الإكثار من الحلوى والنشويات ، قلة الحركة
- العمود الثالث : المنافِسات
- وفيه تسرد الجذور النفسية والمحفزات الكامنة وراء قيامك بتلك الأفعال المعاكسة على علمك بأنها تدمرك ذاتيا .
- مثال : الشعور بفراغ عاطفي ، كثرة مشاهدة التلفاز … مما يحفز وقوعك في المعاكسات .
انتهاج هذه الخريطة شرط لازم لمقاومة مناعة التغيير ، لأنها تعينك على تحليل مظاهر تلك المقاومة واستئصالها من الجذور . بغير ذلك ستقع في الدوامة المعتادة بداية كل عام جديد : فورة التغيير الظاهري المؤقت ، ثم الانتكاس بعدها للعادات القديمة ، بسبب المحفزات الكامنة التي لا تنتبه لها .
إن التغيير الحقيقي والتعديل الدائم يأخذ وقتا ، ولا يتبع وقعا منتظما أو قابلا للتنبؤ . ولا بد أن يشمل الظاهر والباطن معا : السلوك يجب أن يتماشى مع تغير في العقلية ، والعقلية حين تتغير تغير السلوك بدوره .
اكتب تعليقا