هل تقدّمت الحضارة الغربية بكيان الأسرة أم على حسابها؟

 

sylvain-sarrailh-highloungeartstation.jpg

في كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” استوقفني حديث المؤلف عن الحضارة الحديثة التي تشتهر بقضايا التعليم الاجتماعي ومؤسسات الحضانة للصغار والرعاية للكبار، وهذا في ظاهره يبدو حسنًا، إلا أن هناك قاسمًا قاتمًا مشتركًا بينها، ألا وهو غياب الأم والمنظومة الأسرية، ووضع الأطفال في رعاية الموظفين. للوهلة الأولى تبدو هذه هي النقلة الطبيعية لمواكبة تغيرات العصر لكن شيئًا من التأمل كفيل بقلب الصورة تمامًا. ترى، هل أنصفت الحضارة المرأة حقًا أم نصفتها؟ وهل تقدّمت بكيان الأسرة أم تقدّمت على حسابه؟


ما المساوئ التي يمكن أن تترتب على تحرير فرد واحد فحسب من قيود البيتوتية وقالب الأشغال الأسرية؟ ثم هل خُلِقت المرأة لتدفن في المطبخ؟ ولماذا لا تصنع النساء ما يصنع الرجال؟ (وبالمقابل لا تجد دعوة للرجال لصنع ما تصنعه النساء، فتأمل!) وهكذا تم تصدير دعوة “تحرير النساء” بإدخالهن بقوة في النشاط العام، لكن حقيقة ذلك الشعار وأثرهما على المدى البعيد أسفرا عن التكلفة الكامنة من البداية وراء ذلك التحرير العام، وهو تحلل كيان الأسرة. إذ أخرج منه لُبّه وهو المرأة، ووُضِع بدلًا منه مختلف صور المؤسسات التي تعوّض غيابها عنه على المستوى التربوي والاجتماعي والخَدَمي، في حين كانت محدودية حضورها على المستوى العام يكفلها عنها الرجل من البداية.

وهكذا أصبحت “إدارة البيوت صناعة اجتماعية” كما يقول بيغوفيتش، فقد خلقت تلك الفجوة الأسرية من الوظائف فوق ما كان يحلم به النظام الصناعي والرأسمالي. وكأي تقدم حضاري، لا غنى عن “أضرار جانبي” جاءت كلها على حساب الأسرة يمكن حصرها بتأمل عابر في وقائع واقع اليوم: حالات الـزواج الشرعي في تقهقر متصل مع وقع الحياة السريع والقائم على الحرية الفردانية لأقصى حد، مع تزايد في نسبة حالات الطـلاق لتعارض الجمع غالبا بين طبيعة الأسرة ومتطلبات النظام الرأسمالي، وازديـاد عـدد النسـاء العاملات في مقابل الرجال العاطلين إذ تظل العمالة النسائية حتى اليوم في عصر المساواة أقل اجرًا من العمالة الرجالية في 90% من دول العالم المتقدم، أما الزيادات المطّردة فتمثّلت في عـدد المواليـد غير الشـرعيين الناتجين من ليالي التمتع المتحلل من أي مسؤوليات تابعة، وبالتالي ازياد في عدد “الأسر” المجازية التي تقوم على أحد الوالدين فقط في الغالب الأم… إلخ

وأما الإجرام الذي وقع في حق المرأة عندما أسلمت نفسها لتلك الحضارة لتحررها، فهو أنها أحالت النساء إلى موضوع إعجاب أو استغلال، وهذا أشد ما يكون وضوحًا في مواكب الجَمَال أو في المهنٍ النسائية القائمة على كونهن المعروضات بذاتها (الموديلات). في هذه الحالات لم تعد المرأة شخصية ولا حتى كائنًا إنسانيًا، وإنما لا تكاد تكون أكثر من “بضاعة جميلة”. ويؤكد بيغوفيتش أن الحضارة “ألحقت الخزي بالأمهات بصفة خاصة”، أي بدور الأمومة ومسؤولياته، فتعبير “ربّة البيت” وصمة عار اجتماعية ومهنية تدل على تخلف صاحبتها وتقصيرها في العطاء المجتمعي! فالحضارة تفضّل المرأة التي تحترف البيزنيس، أو الموديل، أو معلمة لأطفال الآخرين، أو سكرتيرة أو عاملة نظافة… المهم أن تحترف أي شيء إلا أن تكون أمًا!

إن حقيقة دعوى تحرير المرأة لم يكن لإنقاذها من الظلم الاجتماعي والضغط الأسري والغبن المالي الواقعين عليها، فكل هذا ما تزال تعاني منه امرأة اليوم على تحررها، وإنما كانت تلك الدعوى لانتزاعها من كيان الأسرة بالأصل في مخطط طويل نشهد آثاره اليوم، وما تزال الحضارة تفاخر بتحرير المرأة تحريرًا كان قصارى إنجازه نزع المرأة من الأطفال والخدمة الأسرية لإلحاقها بطابور التوظيف والخدمة الجماعية!

وفي اقتباس بديع للكاتب يقارن فيه بيوت المسنين والحضانات :

“بيوت المسنين وبيوت الأطفال تذكّرنا بالميلاد والموت الصناعيين. كلاهما تتوفر فيه الراحة وينعدم فيهما الحب والدفء. وكلاهما مضاد للأسرة، وهما نتيجة للدور المتغيّر للمرأة في الحياة الإنسانية. وبينهما ملمح مشترك هو زوال العلاقة الأبوية: ففي الحضانة أطفال بلا آباء، وفي دور المسنين آباء بلا أطفال. وكلاهما المُنتج «الرائع» للحضارة والمُثل العليا للتحرر الفردي والتقدم الصناعي” _ علي عزّت بيغوفيتش.

رأي واحد حول “هل تقدّمت الحضارة الغربية بكيان الأسرة أم على حسابها؟

اضافة لك

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑