قصة قصيرة : أأعجمي وعربي؟

10.jpg

تحلقت أسرة المهندس عامر حول المائدة تتناول طعام الغداء، فالتفت الأب إلى ابنه الأصغر أنس وبادره بالسؤال: ماذا فعلت اليوم في المدرسة يا أُنَيْس؟ استنار وجه الصغير ذي الأعوام العشرة، وأجاب مبتسما في زهو بريء: سألنا معلم التربية الإسلامية اليوم سؤالا لم يجبه أحد غيري فأعطاني علامة كاملة. ابتسمت الأم في حنان وقالت : ما شاء الله ، تبارك الرحمن ، وما كان السؤال؟ فأجاب أنس: قرأنا قول الله تعالى لا يَسألونَ النّاسَ إِلْحَافا“، فسألنا المعلم عن معنى كلمة “إلحافا”، ولما كنت قد أعددت الدرس مسبقا أجبته: الإلحاف شدة الإلحاح في المسألة والمبالغة في الطلب. صفق له أفراد الأسرة ، وربت الأب على كتفه في إعجاب، ثم التفت إلى ابنته الوسطى أروى الجالسة عن يمينه وسألها : وفي أي مادة نبحث عن كلمة “إلحافا” يا أروى؟ سكتت أروى قليلا ثم أجابت : في مادة لحف . ارتسمت ابتسامة الرضا على وجه الأب وهو يثني على ولديه .

ولم يلبثوا قليلا حتى رن جرس الهاتف وهمت الوالدة بالرد، فسارع الابن الأكبر أحمد ينهض قائلا: لا بد أنه صديقي خالد ، طلبت منه الاتصال بي لنتفق على موعد درس الغد، ثم تناول سماعة الهاتف :

_ آلو ؟ 

_ ……

_ OK ، مناسب جدا … التاسعة صباحا … O.K تمام ، سأنتظرك أمام باب الجامعة فلا تتأخر، باي!

 

وعاد أحمد إلى مكانه دون أن يلحظ نظرات أخويه المستهجنة، ولا رسائل العيون المتبادلة بين والديه في هدوء .

 

بعد الغداء ، خلا أحمد بنفسه في غرفته ليراجع دروسه، وكان طالبا جامعيا بكلية الآداب، يجمع في دراسته بين اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وبدا منهمكا في دراسته حينما طرق أبوه الباب فنهض أحمد مرحبا ، ولما استقر بهما المجلس ابتدره أبوه : كيف تسير دراستك يا أحمد؟ ابتسم أحمد قائلا : على خير ما يرام والحمد لله . أجال أبوه النظر في كتب اللغات التي تراصت على مكتبه و تبسم قائلا : لطالما كانت اللغات والإنسانيات تستهويك يا بني، وما من شك لدي أنك ستتفوق في هذا المجال بإذن الله . أطرق أحمد في سرور وقال: جزاك الله خيرا يا والدي، هذا إلى جانب تشجعيك ودعمك المتواصل لي أنت ووالدتي. سكت الأب هنيهة ثم أردف: قل لي يا أحمد، هل رأيت في حياتك بنيانا قائما دون أساس راسخ يحميه من السقوط؟

  • (متعجبا من السؤال) لا .

  • وماذا يحدث لو تآكل جزء صغير جدا من أساس ذلك البنيان؟

  • (يفكر قليلا) سيكون الأساس عرضة لتآكل أجزاء أكبر إذا لم يتم تدارك الخلل من أوله .

  • أحسنت ، ثم ماذا؟

  • يصبح البنيان آيلا للسقوط … وقد يتداعى؟

  • بالضبط! وهذا يا بني ما أردت أن ألفت نظرك إليه . ولا أحسب مغزى كلامي خافيا عليك .

أطرق أحمد قليلا ثم ابتسم ابتسامة خجلى وقال : أتعني حديثي مع خالد يا أبي؟

أجاب الأب : هو ذاك يا ولدي . كان الأحرى أن تبدأ كلامك بالسلام وتنهيه بالسلام كما علمنا رسولنا الكريم صلوات الله عليه وسلامه ، ولنا في كلمات الإيجاب في اللغة العربية من ( نعم ، و أجل ، وحسنا ، وبلى ، و … ) مندوحة عن غيرها من الكلمات الأجنبية الدخيلة على لغتنا . وهذا ما عوّدتكم عليه فما الذي جد؟ أم أن دراستك للغات الأجنبية قد أنقصت من اعتزازك بلغتك و حرصك عليها؟

  • لا والله يا أبي، لكنها اللغة الدارجة بين زملائي في الكلية، وما خطر ببالي قط أن استعمال كلمتين أو ثلاثا قد يضر بلغتي!

  • ألا تذكر مثل البنيان الذي ضربته لك منذ قليل؟ كذلك لغتك العربية هي صرحك وبنيانك الشامخ كمسلم توقّر لغة القرآن الكريم وتعتز بتراث العروبة لسانا وسجايا، واستعمال الألفاظ الأجنبية مهما بدت تافهة أو قليلة هو ما يعرض صرحك للتآكل على المدى البعيد. ثم إن لغتنا من الثراء والتنوع بحيث لن تعدم فيها تحصيل مرادك من التعبير بحمد الله ، طالما كنت ملما بها كفاية . وما أريد أن أنتقص من دراستك للغات الأجنبية فهي ولا شك مفيدة وهامة ، ولكنك إن لم تتقن لغتك وتحرص عليها فإن بنيانك سيكون ضيعفا آيلا للسقوط غير مؤهل لأن تزيد عليه طوابق أخرى . والحمد لله الذي أكرمك بأن جعلك من أهل العربية ، فتجري على لسانك هينة سهلة ، ولا يحال بينك وبين فهم كلام ربك وفقه دينك وتذوق بدائع العربية وأسراها، ومن ذا الذي يرضى أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟  ألست معي يا بني فيما أرى ؟

 

  • بلى والله يا أبت ، وجزاك الله عني خيرا ، فقد نبهتني إلى أمر جلل كنت عنه في غفلة ، ولك علي عهد الله ألا أعود لمثلها أبدا .

  • ربت الوالد على كف ولده في حنان وقال في رضا : بارك الله فيك من ولد نبيه أواب إلى الحق متى تبين.

 

وقطع حديثهما العائلي الدافئ رنين الهاتف فنهض أحمد ليجيبه، والتفت مبتسما لوالده وهو يرد:

– السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ، نعم أنا يا خالد … بلى صحيح … إذن الساعة الثامنة .. لا بأس ، نلتقي هناك إن شاء الله … في أمان الله .

 


 

للفائدة : نصَّ مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وغيرُهم على كراهة الرَّطَانة، وهي إدخال كلام عجمي في الكلام العربي.

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑