أنا ونفسي (4) : البحث عن حل أم حالة؟!

يومًا بعد يوم يتقلص تفاعلي الدرامي مع الرسائل والشكاوى من نوع “أنقذوني إنني أغرق” . ذلك أنه على مدى فترة معتبرة من تلقي الشكاوى والاستشارات الحائرة والتائهة في مسالك الحياة ، تبين لي ظاهرة نفسية يتوجب التوقف عندها بصدق وجدية : ظاهرة البحث عن “حالة” لا عن “حل” .

find30-1091x520-c

بداية ما من معضلة تتعلق بهذا الكون ومفرداته – التي منها نحن البشر – إلا ولها “معالم” جواب ما . ومن سمات المعالم أنها واضحة جدًا وميسورة جدًا ومحدودة جدًا . مشكلتها الوحيدة أنها “معالم” الجواب ، لا “ذات” الجواب . لأن الجواب – كما السؤال – ليس محطة نهبط عليها بمناطيد هوائية ، بل هي رحلة ، تطول أو تقصر ، تتشعب أو تستقيم .. المهم أنها رحلة ، وفيها جهد ، وتفاعلات ، وأخذ ورد ، وصبر ، ووقت  .

والحائر الجاد في حيرته غير الجاد في كشف حيرته (مهما اعتقد في نفسه الجدية) أشبه بالطفل الذي حين يتعب يجلس ، ولو اجتمعت كل قوى الأرض على أن تزحزحه ليستمر قليلًا بعد ، لن يزيد على أن يستمر قاعدًا ويكتفي بالبكاء ، حتى تهبط عليه معونة ما ممثلة في ذراع يحمله وينقله إلى حيث “المحطة” (الهبوط بمنطاد هوائي) . فالقعود ، البكاء ، المعونة الهابطة ، الوصول للمحطة دفعة واحدة .. هذا هو “الجو” الذي يعيش الحائر على تمنيه والتطلع إليه ، كل هذا (حالة) . أما النهوض ، الاستقامة واقفا ، السير خطوة خطوة ، ببطء ، على مهل ، بصبر ، اتباع مَعلَم بعد مَعلَم .. هذه المعالم على طول الرحلة هي (الحل) .

  • فتجد من يتيه في دهاليز نفسه ويمضي أيامه على غير هدى لأنه محروم من شيخ مرب ، أو مرشد موجه ، أو مدرّب مشرف ، أو مجموعة مصاحبة ، أو حالة من حالات الاهتداء التي تطمئنه في ظل نفسية متشبثة بشخص حاضر وصحبة ملازمة وأحوال خارجية

 فلو قلت له دونك أول أبواب العلم يدرّسها ثقات يبذلون علمهم للناس ، تفقه في طهارتك وصلاتك وصيامك وزكاتك ومعاملاتك المالية والأسرية ، أركان دينك الكبرى فابدأ بها تدلك على ما بعدها .

مطّ شفتيه وهز رأسه .. إنه لا يريد الواضح ولا المعالم المطروقة ، إنه يريد هالة الغموض ووهج الحالة الجديدة واستكشاف المجهول (وما أجهله بما يظنه واضحًا لو جرب أن يواجهه) .

  • ثم تلقاه بعد عام وهو في نفس دائرة التوهان ، هذا إن لم يكن قد تعلق بمن يزيده توهانًا (لأن الحائر بغير حد أدنى من ثوابت العلم عقله كالصفحة البيضاء كل يخط فيها ما يشاء دون قدرة على التمحيص) ، تلقاه فيشكو إليك أنه لا يجد للذكر طعما ولا يتصل بكتاب الله ولا يحسن تلاوته

فتقول له دونك جهات ومشايخ يبذلون علمهم للناس ، ودونك قرّاء ومعلمون عبر الانترنت ، ودونك غريب الألفاظ والتفسير الأساسي ، وحلقات التدبر أو تسجيلاته للثقات ، دونك معالم واضحة متاحة خذها ويفتح الله عليك بعدها  . فيمط شفتيه ويهز رأسه .. ومع أنه جاهل بكل ذلك لكنه بصورة ما متيقن أن حله ليس في أي من ذلك! إنه يريد حالة مفصلة له خاصة ، لا معالم حل ، ربما لو كان مدربًا مخصوصًا به أو منهجًا مصممًا له وحده  .

  • وفي لحظة شجاعة يائسة (!!) يلقي بنفسه وسط دورة ابتكارية أو تنموية لعلها لا أصل لها من العلم الحق بل لعلها لا تخاطب احتياجه ، لكنها تخاطب حاجته النفسية لأجواء الاهتداء وحالة الشعور بالاشتغال حتى لو كان شغلًا يزيد بعدًا ويضاعف توهانه .

هذه النفسية المدمنة لحالة التوهان وتخيلات حالات الهداية ، هذه نفسية عامة حتى لو كان ذلك الحائر يحتاج لتعلم مهارة أو حرفة ليتكسب منها أو ينتفع بها مثلًا ، فتدله على ما يعينه أن يتمكن من مهارة كذا أو يتعلم كذا لو أنه فقط يأخذ الخطوات الواضحة أمامه أولًا ، ويصبر على الكتاب حتى يتم والمادة حتى تنتهي والممارسة حتى يتقنها ..

لتلقاه بعد فترة وهو على حاله مع نفس السؤال الحائر ..

– فتسأله : هل أخذت بما بينت لك من قبل؟

– فيجيب : لا لأنني كنت حائرًا آخذ به أم لا! أو لأنني كنت حائرًا هل سيكشف حيرتي أم لا!

– سبحان الله! هلا كنتَ تحركت من وقتها فتبينت من حينها؟!

وهكذا يمضي العمر عامًا بعد عام ، وصاحبنا التائه في دوران وبكاء ومراقبة لأحوال الناس وتحسر على نفسه . والطريق – أي طريق – لا يتضح إلا لسائر . لكن كثيرًا من الحائرين وإن كانوا تائهين على الحقيقة ، فليسوا جادين في كشف حيرتهم “على الحقيقة” .

 


يا أيها التائه الحائر ..

فيما يتوافر من البيّنات حولك ، والجدية مع نفسك في الأخذ بها ، الكفاية والغناء ليصلا بك إلى حيث يأذن لك مولاك ، شريطة أن تأخذ بها وتمضي ثم لا تلتفت  . ودع عنك نفسية انتظار الخلاص والتعلق بشخوص معيّنة للإنقاذ وتوهم أحوال بعينها وتخيل أجواء بغيرها لا تصل  .

أرْبِع على نفسك وعاملها بحزم وحكمة ، وخذ بما تبين وبمن تبيّن ولا تتكلف ما وراءه حتى تتمه ، وابدأ البناء من الأساس لأنك بدونه لن تبني أصلًا ، وكف عن إهدار حياتك منتظرًا أن تحيا لأن المحطة الوحيدة التي ستبلغها عندها ..هي قبرك!

 

أتدري كيف يُسرق عمر المرء منه؟ يذهل عن يومه في ارتقاب غده، ولا يزال كذلك حتي ينقضي أجله، ويده صِفر من أي خير – محمد الغزالي

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑