عندما تصل لمفترق الغربة عن نفسك : كيف الحل؟

m12790923809

في مرحلة ما من رحلة الحياة ، مرة أو أكثر من مرة على طول تلك الرحلة ، نصل كلنا لذلك المفترق الذي تشعر عنده أن نفسك فَرَطت منك ، وأنك صرت أغرب الناس عن ذلك الكائن الذي تحمله بين جنبيك ، وأن بينك وبين قلبك ألف حائل .. إلا قليلًا!

أحب أن أشارك “وصفة” مجرّبة ، وجدتها نافعة الجدوى والأثر كذلك مع مختلف من أخذوا بها عند ذلك المفترق ممن طلبوا المشورة :

(1) سّلم بهذه المرحلة ، ولا تستسلم لها :
فأما التسليم بها يعني أن تتقبل قابلية وإمكان وحقيقة وقوعها بالفعل ، ولا تتحجر عند السخط عليها تحجرًا يشلك أن تتعامل معها فتغرق في دور ضحية أنت الجاني الأول عليها! توقف عن منازعة حقيقة ما هو كائن بالفعل ، بالحنين إلى أو التذمر مما “كان ينبغي” و”يفترض” أن “يكون” .

ويعني كذلك أن تسمح لنفسك باختبار مختلف المشاعر التي يستثيرها السياق ، من الحزن والألم والكدر … إلخ ، في حدود المساحة الطبيعية للشعور والوجدان . فمن الناس من يفزع من المشاعر المصنفة “سلبية” فزعًا يوقعه في سلب من وجه آخر ، تمامًا كما أن خوف الذل ذل . وإن في جماليات التقلب في مختلف درجات الشعور الإنساني لآيات لقوم يتفكرون! وينفع هنا أن تعامل نفسك بدرجة من الوالديّة ، فتكون كوالد يصحب طفلًا لـ “يستكشف” أمرًا جديدًا عليه ، فيترك له مساحة معتبرة ليعايشه بنفسه مع قدر من الضبط والتوجيه حتى لا يفرط منه . 
وإن معايشة مختلف المشاعر مما يجيب حاجة في النفس من جهة ويثري الوجدان من جهة أخرى . الشأن كل الشأن ألا تقع في البند الثاني تاليًا .

إذن سلّم بهذه المرحلة = تعامل مع الموجود
والتسليم بواقع ما غير الاستسلام له . الأول يعني إقرارك بوقوعه ومن ثم تتوجه لمواجهته والتعامل معه ؛ والثاني يعني إنكارك له نفسيًا والانهزام أمامه داخليًا ، فيستحوذ عليك بدل أن تستعلي عليه ، ويتوطن في داخلك بعد أن كان واقعًا خارجك .


(2) لا تتخذ الغم عملا ولا تغرق في سرادق الرثاء :
من الحقائق المغفول عنها على بساطتها وكثرة تردادها أنك لست المبتلى الوحيد في أي سياق وإن تفاوتت صور الابتلاء . يضاف إلى ذلك أن هذا المفترق لا يؤدي بالضرورة لهاوية سحيقة لأنك لست محاطًا بفريق إنقاذ جاهز لانتشالك . ومن ثَمّ ابتعد تمامًا – وأعني تمامًا – عن سيمفونيات العزف الانفرادي على أوتار الوحشة والغربة والوحدانية ودراما الاكتئاب والتخاذل والشعور بالرثاء لنفسك .

إياك أن تتخذ الغم في ذاته عملًا ، فإنه ما أنزل الله من داء إلا وجعل له دواء ؛ إلا الموت الذي هو آتيك في حينه وطاويك في قبر لن تملك بعده عملًا فعلًا ، فلا تَقبُر نفسك في نفسك قبل أوانها لأن ذلك هو الخسران الحقيقي .

 

(3) لا تتجاهل المفترق حين تصله :
عندما تصل لتلك المرحلة التي تشعر فيها بالانشقاق الداخلي ، لا تتجاوزها وتمضي في رحلتك كأن شيئًا لم يكن . لا بد أن تحترم نفسك وما ترسله لك من رسائل ، فالغفلة عنها حتى تَفرُط منك جرح يمكن مداواته وعلاجه ، أما تجاهلها بعد التنبه لذلك فأشبه بطعنة تسبب نزيفًا داخليًا مستمرًا . فمهما كان تخيل الحل صعبًا ووقع المواجهة ثقيلًا ، فالهرب من ذلك يَشِل ولا يحل ، ويزيد الثقل أثقالا ولا يخففه!

وما لا ننتبه له في سجالات الهرب من النفس والغربة عنها وتجاهل حاجتها للمحاورة والتفاهم وبناء صلة محترمة وناضجة معها ، ما لا ننتبه له أننا نعادي أنفسنا بأنفسنا ، وأننا نخمد أنفاسنا بنفسنا ، ثم نقعد نبكي على أطلال نحن أول من هدّها! 
ابذل من نفسك لنفسك ، وخذ من عُمُرك لعُمرانك ، وكن جادًا في مسؤوليتك عن شأنك .


(4) استعن بالله ولا تعجز :
تأكد أنك لا تبلغ في عمرك شعور العجز المعجز إلا أن يكون سبقه سلسال من الانفصام عن استعانة ربك واستهدائه ومناجاته ودعائه واستشارته واستخارته . ذلك أنه لا حول ولا قوة … إلا بالله . ذلك أنه من لم يجعل الله له نورًا … فما له من نور . وما مثل هذه المفترقات التي نصل لها إلا لتعلم إذ نسيت ، أن الله يحول بين المرء وقلبه ، وأنه يهديه إليه إذا ما استهداه .
إن أكبر منافذ التعجيز والتخاذل أن تشعر أنك غير قادر على الحمل وحدك ، ونسيت أنك من البداية لم تؤمر بالحمل وحدك وقد خلقت ضعيفا . وإن أول منافذ القوة والعزم دائمًا من ثم ، في ذلك المفترق وغيره ، في كلمتين : “يا رب” .

بدايتك الجديدة تكمن دائمًا في جثوة على الركبتين ورفع لليدين . الأولى تضع عنك أغلال العظمة والتكبر الأجوف وتردك لموضعك عبدًا ضعيفًا محتاجًا ، والثانية ترقى بك لسماء لا تغلّق أبوابها في وجهك مهما بعدت ، وتصلك بمعين قوة وعون لا ينضب مهما استزدت .

وما أعجب قولة أمّنا السيدة عائشة عليها الرضوان في قصة المجادلة ، عندما جاءت الصحابية خولة بنت ثعلبة تشكو زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل في أثرها سورة “المجادلة” التي أوّلها “قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما …” ، فتقول السيدة عائشة : “سبحان الذي وسع سمعه الأصوات! لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول!” وفي رواية “تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ ..” وفي أخرى : “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ كُلَّهَا …” .

إياك أن تمضي في الحياة زاعمًا الإيمان بالله ثم أنت مبتور عنه وعن طلب نوره كمن لا رب له . وإياك أن تعلن بلسانك الإقرار لله بصفاته سميعًا بصيرًا خبيرًا بعباده ، ثم قلبك منها في شك وكفران!
تكلم .. والله سميع .
ادع .. والله مجيب .
أكثِر .. والله أكثَر .
كَبِّر .. والله أكبر .


(5) خذ ما آتيتك .. وكن من الشاكرين
لا تتكلف الحيرة والتوهان فوق حجمهما ، فتكون كمن لم يبعث له نبي ولم تبلغه رسالة وليس بين يديه قرآن ولا سُنّة! 
في كل مرة تصل لمثل ذلك المفترق ، ابدأ بسرد قائمة من المعلومات عندك من كل الفضائل والنافعات التي أغفلتها أو قصّرت فيها أو هجرتها بسبب “انشغالك” . ثم التزم بواحدة يوميًا أو دوريًا . هذه الخطوة البسيطة كفيلة بأن “تنعش” يقظتك لنفسك ، وتردك لما كنت حِدَت عنه حتى تبدأ تستقيم ثانية ، وفي نفس الوقت ليس فيها رهبة التغييرات الجذرية ولا رعب التحوّل الشامل والجهد الكاسح .
تعامل مع نفسك على أنها في مرحلة تأهيل ، واقتطع لها وقت استراحة تتخفف فيه مما شغلك حتى ألهاك ، فإذا أفقت من اللهو والالتهاء أمكنك أن تسمع لها وتحاورها جادًا ، ثم تتعاون معها في تدارك أمرها .
في كل خطوة وعند كل مفترق ستجد دائمًا علامة كالنجم يمكنك الاستنارة بها ، أو أمرًا بينًا يمكنك العمل به فورًا ، ولو أن تدعو ربك أن يهديك . خذ بذلك البيّن ولا تتكلف المجهول وراءه ، فأخذك به شكر لنعمة بيانه ، ومن شكر الله زاده . فخذ واشكر واستبشر خيرًا .

والله تعالى الموفق والمستعان .

3 رأي حول “عندما تصل لمفترق الغربة عن نفسك : كيف الحل؟

اضافة لك

  1. بارك الله فيك .. ونفع بك .. وزادك من علمه ورزقه وفضله .. وأدخلك في عباده المخلصين الصالحين المصلحين المتقين المحسنين .. ونفع بك الإسلام والمسلمين.

    Liked by 1 person

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑