تناولنا في المقال السابق من سلسلة “أنا ونفسي” ، مفهوم إدارة النفس ، ومنبع الخلل الذي يجعلها مستعصية على الانقياد ، وظاهرة الغرق في انشغالات تبعدك عن مواجهة ما لا مفر منه . في الجزء الثاني نقف على بعض الحجج التي يتدّرع بها الهارب من مواجهة نفسه.
-
أخشى أن تنقلب معرفتي به حجّة علي إذا لم أعمل
ليس من ديننا الهروب من مواجهة مسؤولية الحياة ومسؤولية العقل ومسؤولية الاختيار ، إن هذه المسؤوليات هي ما تجعل منك إنسانا ، فلا أنت حيوان ولا ملاك ولا شيطان ، وإنما تكوينك الفريد من جماع خصائصهم هو عين الامتحان وحكمة الاختبار ، وطالما أنك موجود فأنت ممتحن شئت أم أبيت .
وحين نتأمل توجيهات الله تعالى عن أعدى أعداء بني آدم من كيد الشيطان واتباع الهوى وخواطر النفس الأمّارة ، بالسوء ، لا نجد فيها توجيهًا يدعو للهرب أو الفرار أو الخوف . لم يأمرنا الله بالخوف إلا منه ، ولم يدعو للفرار إلا إليه ؛ أما أولئك فكانت الأوامر بصددهم دائما تقوم على فعل إيجابي لا تولٍّ سلبي : استعذ ، استعن ، قاوم ، استغفر ، تب ، أصلح …
لذلك عدم الحرص على معرفة الواجب لا يسقط وجوبه ، وليس كل جاهل يعذر بجهله ، فمن بلغ الستين ليس كمن توفاه الله في العشرين ، وفي الحديث : ” أعْذَرَ الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلَّغه ستين سنة” [البخاري] ، أي لم يبق له عذر يعتذر به كأن يقول : لو مُد لي في الأجل لفعلت ما أمرت به .
كذلك من يملك اليوم مفاتح العلم وإجابة المسائل بضغطة زر ، ليس كمن كان يقطع البوادي بالراوحل ليحصّل حديثا واحدا! كما قد تتغير الفتوى بتغير الأزمان ، كذلك تتسع المسؤولية بما يفتح الله من سعة في أدواتها ، فلا يستوي الأعمى والبصير ، والقادر والمقعد ، والمقتدر والفقير … إن مسألة الاستطاعة شيء واختيار إهدار هذه الاستطاعة شيء آخر تماما . وتوقفك عن طلب العلم أو وسائل تحصيله خشية أن تزيد الحجة لا يسقط أصلها ، فالحجة قامت عليك بعقلك واستطاعتك .
ثم إن خشية الحجة لا يحلها الهرب منها! لماذا لا ننتبه أن الهروب ليس حلا؟ وأن تولية الظهر لأمر لا يلغي وجوده؟ يقول ابن كثير رحمه الله تعالى ، في تفسير آية ” أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ” [البقرة : 44] : “ليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر ، بل على تركهم له . فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب ، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف” ا.هـ
فإذن مجرد ترك البر خشية مسؤوليته ، أو اختيار الهروب من المواجهة لا يحل الإشكال الذي تركته أو هربت منه ، بل لعلك بذلك تضاعف على نفسك تبعة التقصير والتفريط . عدم العمل بالعلم إشكال يتطلب العمل لا التوقف ، ولعل العمل المطلوب يكون في تغيير نوع العلم الذي طلبته أو درجته أو كيفيته . إن صم أذنيك عن سماع أنفاسك التي تتردد إلى انقضاء ، أو إغماض عينيك عن تتابع الليل والنهار إلى ختام ، لن يغير من حقائق الأمور شيئا ، والحجة قائمة قمت بها أم قعدت دونها .
-
حاولت وفشلت!
ما قولك فيمن بذر بذرة شجرة ، واستمر في تعهدها بضعة أيام أو أسابيع ، ثم ملّ الانتظار واستبطأ نمو الشجرة ، فتركها متذمرا أنها غير ذات جدوى؟!
إن العقيدة التي يؤمن بها المرء هي بذور من القناعات ، تُغرس في فكره وتُورِق في وجدانه فتثمر في حركته . فالذي يستعجل صور الحركة قبل وقر البذرة كمن يريد أكل العجين قبل أن يختمر . ولذلك السر في بهتان أفعالنا وتذبذبها أننا لا نتعاهد عقيدتنا قناعة ومفاهيما ووعيا وعقلا وتدبرا ، وبالتالي يكون الجيشان الشعوري دائما فورة مؤقتة بحسب السياق الذي هيجها ثم تخمد .
إننا نحاول مرة ، ثم حين لا نصل لصورة معينة اخترعناها في رؤسنا نحبط ونتوقف ، وربما نعاود نفس الكرة لاحقًا . وبين كل محاولة ومحاولة خط مستقيم من الخمول والهمود والإحباط ، وبالتالي في كل مرة نعيش منحنى أعلى القمة ثم أدنى القاع ثم الركود الكاسح!
إن الذي يبتغي الوصول لثمرة اليقين لابد أن يعتصم بالصبر ويتسلح بدوام التذكرة ، لأن في التكرار عبرة ، وفي كل عبرة جَدَّة ، وفي كل تأمل وتدبر فرع جديد يورق في الوجدان . بذلك فقط تصير العقيدة حية في نفس صاحبها ، ويغدو إيمانه مزهرا متجددا . ولذلك كم من شباب في العمر شاخ إيمانهم لعدم تعهده أو تعجل ثماره قبل حسن غراسه .
-
أتعلم كثيرًا ولا أطبّق بنفس القدر
ام اقراء مقال جميل مثل هذا من قبل
جزاكِ الله خيرا
إعجابإعجاب