القواعد العشر للتعامل مع هواجس تغيير العالم الكون وبصمة الأثر ورسالة الوجود

da48c631743583a655c11250d3b53b14.jpg


في ذكرى الأسئلة الوجودية التي صارت الشغل الشاغل والهم المُقعِد لغالب الشباب

ماذا سيقول الناس عني بعد موتي؟
كيف سيخلد التاريخ ذكري؟
ما البصمة التي سأتركها على الكون؟
ما رسالتي للعالم؟


(1)

“إلّا لِيَعبُدُون”

من منّة الدين على من دان به حقًا أن رؤيته للكون تغدو أوضح وحركته فيه أصح . لذلك عندما تكون مسلمًا ، لا يعود عليك اختراع فهم لهذا الوجود ولا سنّ قوانين له بنفسك . فرسالة المسلم الوحيدة في الحياة أن يكون عبدًا لله ، ورسالته المخصوصة أن يكون عبدًا لله في سياقه المخصوص. والعبودية لله هي أن تتصرف على أرض الله ، حيث يجعلك الله ، كما أمر الله ، لوجه الله .  

فإذن كل عمل تقوم به على وجه العبودية ، داخل بالضرورة في مهامك الوظيفية ورسالتك الوجودية .


(2)

“كلّ يُسِّر لِمَا خُلِقَ لَه”

تلك “الموهبة” التي يمتاز بها فرد عن بني جنسه وذلك الأثر الذي تنفرد به بصمته ،  أمرها ليس عسيرًا ولا معقدًا ، ولا هي من معضلات الوجود التي إليها رأسًا تشد الرحال وفي سبيلها تفنى الأعمار ، على ما ترسمه التصورات الأجنبية المستوردة والمستهلكة .

إذا رجعت للحديث ، وجدت الفعلين الرئيسين فيه مبنيين للمجهول : (يُسّر وخُلق) . فالفاعل في الخلق والتيسير ليس أنت ، أنت مفعول به .

= الله الذي خلقك وهيأك لأمر ، هو الذي ييسرك له وييسره لك ، فليس لك من الأمر شيء على الحقيقة ولا من الثغرات اختيار فعليًا . وإنما غاية وحقيقة ما عليك أن تستهدي الله صادقًا مبتغيًا وجهه حقًا ، ثم تمضي بأمره في كل مرحلة بما يبين الله لك ، موقنًا أن الله كفيل بتوجيهك وأن عليه وحده حسابك ، فأنت منه وبه وإليه .


(3)

“لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ وَلَا يَزِيغُ عَنْهُ

لن تنفك عن هواك أبدًا . هوى النفس كامن لك بل كامن فيك! فلا تظنّن يومًا أنك “تطهرت” منه ، بحيث كل ما تطلبه وترجوه وتسعى له هو حقًا في الله “خالصًا” وإن ادّعيت ذلك .

إذن ما العمل؟ ألا تنفك عن الاستعانة بالله واستهدائه ، والامتثال بأدب لما يوقفك فيه من سياقات حتى يكون هو مخرجك منها ومستعملك في غيرها ، والاتباع بأدب لما يبين لك من وجهات حتى يكون هو تعالى موجهك وجهة أخرى . والله يبين حقًا وقلب المؤمن يسمع عن الله حقًا ، لكننا كثيرًا ما نعمى ونصم لأننا مصرون على هيئة معينة إن لم تتبين عليها الأمور لا نلتفت ، ثم ندّعي أننا “بالعبودية” قائمون .


 (4)

“وما رَميتَ إذ رميتَ ولكنّ الله رَمَى”

أنت لا تغير الكون ، ولا تصلح الناس ، ولا تهدي القلوب ، ولا تنشر العلم ، ولا تفعل أي شيء (على الحقيقة).

الله هو الفاعل ، الله هو الذي رمى . وإنما كانت رميتك مما أذِن الله لك بها وأجراها على يديك ليبليك بلاء حسنًا ويجعل لك منها ثوابًا. فتخفف من النزعة القارونية “إنّما أُوتِيتُه على علم عندي” ، وتيقن أن كل ما عندك من طاقات هو استأمنك عليها وهيأك لها ووفقك للأخذ بأسبابها ، فآتتك فوق ما استحققتَ بجهودك حينًا ، وامتنعت عليك مهما طلبتها حينًا آخر ، لأن الله هو مسبب الأسباب والمسبب بدون الأسباب ، والفعّال لما يشاء .

فكن مع الرامي ، ولا تتعلق بالرمية!


(5)

 “لا يُكلِّفُ اللهُ نفسًا إلا ما آتاها”

فكما أن الله هو الذي آتاك ، فهو الذي يهديك لما آتاك فتعرفه ويعرفك ، ويهديك لما يكلفك به فيما آتاك .

وما آتاك الله ليست فقط تلك “الموهبة المخصوصة” التي تفردك عن سائر بني جنسك ، وهذا سر جاذبيتها وتهافت الناس عليها بالمناسبة لأنها مدخل عظيم من مداخل حب الجاه والتميز ، مهما تلبست في الوسط المسلم بالتطلع لها “في الله”!

ولو صدق التطلع لله لا لذات التفرّد ، ولما يريد الله لما لما تريده من الله ، لتنبهت لأوليات ما آتاك الله مما هو بين يديك فعلًا ، ولا تحتاج للتنقيب عنه في غياهب الكون ودهاليز التنمية البشرية:

– جوارحك : ما تقوله وما تسمعه وما تنظر له وما تمشي له

– عافيتك وقوتك ووقتك ومالك : فيم تصرفهم ولمن تصرفهم

– تكاليفك من صلاة وقرآن وذكر: كيف تعاهدك لهم ووردك فيهم

– دوائرك القريبة وأولهم أهلك : كيف برك بهم أو كف أذاك عنهم على الأقل

 


 (6)

“لا تُكَلَّفُ إلا نَفسَك”

ليس عليك تغيير الكون ، وما من حساب الناس عليك من شيء . عليك بخاصة نفسك ، وكَونِك أنت ، لأنه إذا استقام عالمك في داخلك ، سيفيض تلقائيًا بقدْر على كل من يأذن الله أن يتصل عالمك بعالمهم . ولا أزال أذكر نصيحة الشيخ إدريس توفيق رحمه الله ، حين حاضرنا مرة في ندوة تابعة لقسم اللغة الإنجليزية في كلية اللغات والترجمة ، عن همة الشباب المسلم في الدعوة ، وكيف ان الكل يتسابق على القيادة وعلى الكلام وإقناع أكبر قدر من المخالفين بحجته ، ثم سكت وأشار إلي قيّم القاعة الذي كان يعد الشاي ، وقال : “هذا الرجل الذي قد لا يلتفت له احد ، مشارك معنا بالفعل والثواب في الدعوة . أحيانًا قد يكون كل دورك في الدعوة أن تعد الشاي ، وهذا دور كريم نبيل إياك أن تستحقره” .

صحيح أن من آتاه الله طاقات أكبر مسؤول ومؤتمن عليها ومن واجبه السعي لبذلها والعمل بها ؛ لكن ذلك فهم ، وأن تكون مدفوعًا بحمّى التصدر وعدّاد التألق والمهام الرنانة الطنانة فشيء آخر تمامًا .

وبالمناسبة ، قد يحصل أن يكون كل دورك في مرحلة ما على كل ما أوتيت من طاقات أن “تعد الشاي” ، لأن الذي آتاك لا يريد منك وقتها إلا هذا الدور ، فوقتها الأدب في الامتثال ، لأن رسالتك أن تكون عبدًا قبل أي شيء وفوق كل شيء ، ثم كن بعدها ما يأذن الله لك تكون .

 


(7)

“لا تَحقِرنّ من المعروف شيئًا”

صيغة النهي في الحديث جازمة . والتنكير في كلمة “شيء” يفيد مطلق المعروف ، أي معروف وأي خير وأي نفع ، ولو كان تبسمًا في وجه أخيك!

فليس هنالك عمل صغير وعمل كبير في ميزان الله تعالى ، وإنما النفوس والهمم هي التي تكبر وتصغر بغض النظر عن صورة العمل الذي تكمن خلفه . فكم من قلب صادق الطلب لرضا الله يُكبّر الله عمله في الميزان ، أي ثوابه ؛ ونفس العمل ذاته لآخر تنزل درجته بسبب ما كان في قلب صاحبه من تذبذب وفي نفسه من تطلع لغير الله .

 وإن شئت أن تسمع من رسولك عليه السلام عن ربك تعالى ، فتأمل هذا الحديث تأمل الطالب لرضا الله حقًا 

  • عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ذَهَبَ الْأَغْنِيَاءُ بِالْأَجْرِ ، يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ !
  • قَالَ : ” وَأَنْتُمْ تُصَلُّونَ وَتَصُومُونَ وَتَحُجُّونَ ” ، قُلْتُ : يَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ !
  • قَالَ : ” وَأَنْتَ فِيكَ صَدَقَةٌ رَفْعُكَ الْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ، وَهِدَايَتُكَ الطَّرِيقَ صَدَقَةٌ ، وَعَوْنُكَ الضَّعِيفَ بِفَضْلِ قُوَّتِكَ صَدَقَةٌ ، وَبَيَانُكَ عَنِ الْأَرْتَمِ صَدَقَةٌ ، وَمُبَاضَعَتُكَ امْرَأَتَكَ صَدَقَةٌ ” 
  • قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، نَأْتِي شَهْوَتَنَا وَنُؤْجَرُ ؟ ! قَالَ ” ” أَرَأَيْتَ لَوْ جَعَلْتَهُ فِي حَرَامٍ ، أَكَانَ تَأْثَمُ ؟ ” ، قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : ” فَتَحْتَسِبُونَ بِالشَّرِّ وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْخَيْرِ ؟ ! .

(8)

الحياة رحلة لا محطات

تلك “الرسالة المخصوصة” ليست بالضرورة شيئًا يفترض بنا أن “نفعله” ، بل لعلها تكون في الحقيقة شخصية ينبغي أن “نكونها” . وما نكونه شيء لا يتشكل في يوم وليلة ، ولا بالمحطات الكبرى فحسب في الحياة ، بل هو يتشكل على طول رحلة ، الصغير فيها مهم كالكبير وأحيانًا أهم وأبقى ، وكل خطوة فيها لها معناها المستقل ونفعها المنفرد في بنائك ، وإن لم يتم المقصد النهائي لمجموع الخطوات أو يؤذن لك بالوصول للمحطة التي جرى العرف أن توصل تلك الخطوات إليها .

 


 (9)

طول الأمل وقصر النفس وانفصام النفس

أن تؤمن بمبادئ يعني أن تجتهد في الاتساق معها في خاصة نفسك أولًا وتتمثلها في سياقاتك ، ومن ثم تجد حركتها تلقائيًا تصدق ما تؤمن به وتجسده . فحركتك نابعة من إيمانك ، وإيمانك تعضده حركتك . هذا الجهاد والمجاهدة في الاتساق مع إيمانك – مهما صعبت عواقبه – في مختلف سياقاتك ، وموازنة خياراتك بحكمة ؛ هذه هي معضلة الوجود وغاية الموجودين . ولا يعني ذلك مثالية المؤمن ودوام صوابه ، فالتعثر في محاولات صادقة وارد بل واقع لا محالة . لكن جريان العرف والاعتياد بأن المبادئ والإيمان مصفوفات زينة لطيفة على الرف للتشدق بها والتصفيق لمن يتشدق بها والتشنيع على من لا يتشدق بها ، ثم فصمها عن الحركة بها بدعوى أن الحركة واقع والإيمان خيال ، هذا شيء آخر تمامًا .

 

ومن جهة أخرى ، انشغل دائمًا بالسياق الذي تكون فيه الآن ، أما كيف تكون وإلى أين تنتهي وما السياق التالي ، فهو آت من تلقاء نفسه إذا كتب الله لك نفَسًا وأذن له بأوان . والعُدة أو الاستعداد الذي أُمِرنا به لا يعني أبدًا الغرق في تكهنات المستقبل وازدراء المتيسر عمله مما هو حاضر ، بل يعني أن تكون في يومك خيرًا مما كنت في أمسك ، وترجو الله حسن الختام حين يحين.

 

وإن من أسوأ مهدرات العمر : طول الأمل وقِصَر النّفس

  • الأول ما يزال يغريك بالتسويف حتى يُضيّع منك ما هو واجبات الوقت الصغرى التي تتراكب لتكون منها مادة وجودك
  • والثاني ما يزال بك حتى يبطئك عما هو لازم من الصبر على خطوات مشروعات العمر الكبرى ، التي منها أثر وجودك


 (10)

ما عليك مما سيذكرك به الناس أو يخلدك به التاريخ ، فالناس لا يذكرون حتى ينسون ، والتاريخ صفحات مطويات في مظانّها إلا لفئة من العالمين بها ، وإنما اشتغل لذكرك عند ربك ثم يتولاك ربك كيف يشاء ويريد .

وكل المطلوب منك أن تحيا حياة ترضاها لنفسك ، بكل ما تفعل ولا تفعل فيها ، وبكل من أنت ومن لست أنت فيها .

المطلوب أن تقدّم لحياتك التي حرثها الدنيا وحصادها الآخرة ، فلا تنشغل بما يحاسبك عليه الخلق في الدنيا ، عما يحاسبك الله عليه في الآخرة .

والله يغني عن الخلق وحسابهم ، لكن الخلق لا يغنون عن الله ولا يدفعون حسابه .

وكل آتيه يوم القيامة فردًا .

 

5 رأي حول “القواعد العشر للتعامل مع هواجس تغيير العالم الكون وبصمة الأثر ورسالة الوجود

اضافة لك

  1. أنى لابكى حتى افهم ما يعنيه كلامك … فلا أفهمه كله
    و أنى لابكى حتى اعرف كيف اطبقه .. و لكنى لا أفهمه لاعرف اين اضع قدمى
    ناشدتك الله أن تبسطيه علينا
    شكر الله لكى

    إعجاب

    1. أهلا ومرحبا بك أختي عبير
      أقترح عليك التجوّل في مقالات تصنيف (عمران الذات) وستجدين فيه الكثير من التوضيحات لأنها مقالات متكاملة

      إعجاب

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑