والله لا أفارق صاحبتي

هذه قصة وفاء كريم غاية الكرم ، وحب نبيل كل النبل ، بطلتها زينب الكبرى رضي الله عنها ، كريمة الحبيب المصطفى ، عليه الصلاة والسلام ، والسيدة المطهرة خديجة رضي الله عنها ، وبطلها هو أبو العاص بن الربيع ، ابن أخت السيدة خديجة الطاهرة المطهرة ، وحسبه من الشرف أن الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام قال فيه : “والله ما ذَمَمْناه صِهْرًا ، حدّثني فصَدَقني ، ووعدني فأوْفَى لي” .

34ebd9d68b8819eb11e3e273ff76f86bتبدأ فصول القصة مع بداية سطوع شمس الإسـلام ، وحمل راية الرسالة الخالدة ، فكان أول من آمن بها زوجة المصطفى صلى الله عليه وسلم وكريماته رضوان الله عليهنّ. وكانت رقية وأم كلثوم رضي الله عنهما ، قد تزوَّجتا من عُتبة وعُتَيبة ابني أبي لهب . في حين كانت زينب ، رضي الله عنها ، زوجة أبي العاص بن الربيع رضي الله عنه . فلما صدع الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام بأمر ربه في الجهر بالدعوة ، ائتمرت به قريش وأرسلوا إلى أصهاره أن “قد فـرَّغْتموه من هَمّه فاشغلوه ببناته!” ، يريدونهم أن يطلَّقوا بناتِ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم . وما كان أبو لهب ولا زوجته حمالة الحطب بحاجة إلى من يوغر صدريهما على صاحب الدعوة الكريمة النبي الأعظم ، صلى الله عليه وسلم ، فقد مضى أبو لهب – عليه من الله ما يستحق – إلى ولديه ليعلن : “رأسي من رأسَيْكما حرام إن لم تطلقّا بنتي محمد” ففعلا ، وطلّقا الكريمتين رقية وأم كلثوم رضي الله عنهما.

أما العاص بن الربيع ، فقد أبَى بحسـم أن يطلق زوجه المصون ، وقال : “لا والله لا أطلقها ولا أفارق صاحبتي ، وما أحب أنَّ لي بامرأتي امرأةً من قريش” . وإنه على شدة حبه لها ، لم يُسْلِم أول الأمر كما أسلمت ، وخلد التاريخ كلمات ذلك الصهر الشريف ، الذي يعرف الحق لأهله ، وهو يعتذر لها عن موقفه قائلًا: “والله ما أبوك عندي بمتهم ، وليس أحب إلي من أن أسلك معك يا حبيبة في شِعْب واحد . لكني أكره أن يقال : إن زوجك خذل قومه وكفر بآبائه إرضاءً لامرأته ، فهلا عذرتني يا زينب؟” .

ثم يهاجر الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وتهاجر كريمتاه أم كلثوم وفاطمة ، وقد سبقتهما السيدة رقية مع زوجها الصحابي الجليل عثمان بن عفان ، رضي الله عنهم أجمعين . وتظل السيدة زينب مع زوجها أبي العاص في مكة ، وقلبها بين كسير على فراق الأحبة ، ومُؤَمِّل في تغير موقف زوجها .

وتتطور الأحداث سراعًا ، فتقع غزوة بدر الكبرى . وتشهد السيدةُ زينبُ زوجَها أبا العاص ، يحمل سلاحه مُكْرَهًا ، ويخرج من داره متثاقًلا ، ليشارك قومه . إنه خارج لقتال أبيها ! وهي الحبيبة لو بيده يفديها! وتُطْرِقُ الكريمةُ والألم يعتصر قلبها ، ولسانُها يلهج بالابتهال إلى الله أن يَهديَ زوجها إلى الإسلام .

وينقشع غبار المعركة عن نصر مُؤَزَّر للمسلمين ، ويسـاق الأســـــرى ، وفيهم الزوج الحبيب والصِّهر الكريم أبو العاص ، أَسَره عبد الله بن جُبَير الأنصاريّ . ويعلم الحبيب المصطفى ، وهو الرحمة المهداة ، أن أولئك الأَسارى فيهم أب أو زوج أو ابن لمـسـلم من المهاجرين ، فيوصي بهم : “استوصوا بالأسارى خيرا” . ثم يرسل في طلب زوج ابنته ، أبي العاص ، ويبقيه عنده في بيته ، صلى الله عليه وسلم .

ويبعث أهلُ مكةَ في فداء أسرى بدر . فكان فيمن أرسل لفداء أسيرِهِ ابنةُ المصطفى الكريمة والزوجةُ الوفية ، أرسلتْ أثمنَ ما تملك فداءً للزوج الغالي . وينظر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فإذا بين يديه قلادةُ زوجته الطيبة المطهرة السيدة خديجة رضي الله عنها ، التي كانت أهدتها لابنتها زينب يوم زُفّتْ إلى أبي العاص . وها هي الابنةُ الكريمة ترسلها فداءً لزوجها . فتدرك الحبيبَ الرقةُ والرحمةُ فيبكي تأثرًا ، وتتحدر دمعات كالجُمَان فوق القلادة الأثيرة في يده الشريفة ، ويتأثر المسـلمون بتأثر حبيبهم عليه أكرم الصلاة وأتم السلام ، فيسكن الجميع كأنما على رؤوسهم الطير .

ثم يرفع الحبيب رأسه ، ويقول لأصحابه الكرام في أدب الأنبياء العِظام : “إن رأيتم ان تُطْلِقوا لها أسيرها ، وتَردّوا لها ما عليها فافعلوا” . فتسابق الجميع لاسترضاء الحبيب الغالي الذي لو شاء أرسل الطلب أمرًا ، وردّ الصحابة الكرام : ” نعم ونِعْمة عَين يا رسول الله ” . وأُطلق سـراح الأسير ليصير حرًا له أن يحلّق كطائر بجناحين ، وإن كاد ليطوي الأرض طيًا لديار الحبيبة ، لولا أسْر ِهمٍّ أحكم القيد حول قلبه ، فهو إذ ذاك بين مَتْبول ومَكْبول!

وحين وصل إلى الدار ألفاها على الباب تترقب مجيئه ، فخفق القلبان ، وتلاقت عيناها الوادعتان بعينيه فأشــاح ببصره ، وأمســك دموعا كادت تَطفُر ، وأفضى إليها بما عاهد عليه أباها صلى الله عليه وسلم: ” لقد طلب أبوك أن أردكِ إليه ، لأن الإسلام يفرق بيني وبينك فلا تَحلِّين لي ، وقد وعدته أن أدعك تسيرين إليه ، وما كنت لأنكُث عهدي” .

84e1a0a622bd588f6cf3ef21e5fb0d42

وربط الله تعالى على قلب المؤمنة فثبت في الامتحان الصعب ، وأذعنت لأمر الله فيهما ، وركبت مع ولديها – عليٍ وأُمامة – بعيرًا جهّزه لها زوجها ، وطلب إلى أخيه “كِنانة بن الربيع” أن يأخذها إلى حيث ينتظرها “زيد بن حارثة” ورجل من الأنصار ، ليصحباها إلى المدينة . ووقف هو تلك المرة على باب الدار ، يملأ عينيه قدر ما يستطيع من صاحبته ، رفيقةِ الدرب ، وأمِّ علي وأمامة . وحانت منها التفاتةٌ أخيرةٌ إليه، فتبيّن لمعة دمعات تترقق في عينيها . إنها صابرة محتسبة ، لكنها لوعة المحزون . ومن رحمة الله أن جعل ماء العيون وزفر الصدور متنفسًا لنفوس تكتوي بحِملها . وسار البعير بهودجه ، وعلى ظهره أكرم زوجة وأغلى حبيبة ، وللهِ مشتكى قلوب أمضّها وجع الفراق .

لمّا هاجرت السيدة زينب رضي الله عنها من مكة ، لتلحق بوالدها الكريم صلى الله عليه وسلم ، كانت تحمل في أحشائها جنينًا في شهوره الأولى . وكان ” كنانة ابن العاص” قد خرج بها نهارًا . ولما كانت قريش لا تزال موتورة من الهزيمة النَّكراء ، التي ألحقها بها المسلمون في غزوة بدر ، خرج إلى السيدة زينب رجالٌ منهم يمنعونها من الهجرة . وكان أولَ من لحق بها “هَبَّارُ بن الأسود” – أخسـأه الله – فروّعَها برمحه ، فأسقطت جنينها . فتأهب كِنانةُ للدفاع عنها ، ونثر سهامه بين يديه وصاح فيهم : “والله إنكم لتعلمون أني أرمي فما أخطئ ، ولا يَدنُونَّ مني رجلٌ إلا وضعت فيه سهمًا!” . فأقبل عليه أبو سفيان وقال : “أيها الرجل كف عنا نَبْلك نكلمْك” ، فكفَّ عنهم ، فتقدم إليه أبو سفيان وقال : ” إنك جانبت الصواب إذْ خرجتَ بالمرأة على رؤوس الأشهادِ علانيةً ، وقد عرفت مصيبتنا ونَكبتنا ، فيظن الناس فينا الضعف والوهَن ، وأن ذلك من ذلِّ ما أصابنا . ولَعَمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة ، ولكن ارجع بها ، حتى إذا هدأتْ الأصواتُ وتحدث الناس أن قد رددناها ، فاخرج بها سرًا ، وألحقها بأبيها” . فلما شُفيتْ رضي الله عنها من آثار السقط ، استأنفت رحلة الهجرة . و لما علم النبي صلى الله عليه وسلم منها بما كان ، أهدر دم هَبّار ، فقُتل بعد ذلك .

دام فراق الزوجين ستَّ سنواتٍ كاملة ، احتضن بيتُ النبوة فيها الابنةَ الكريمة ، وانشغل فيها الزوج الملتاع – أو تشاغل – بتجارته . ولم يشارك في معركة ضد المسلمين بعد موقعة بدر . حتى إذا كانت السنة السادسـة من الهجرة ، وقُبيْل فتح مكة ، خرج أبو العاص في تجارة لقريش ائتمنوه فيها على مالهم ، لما اشتُهر به من حفظ الأمانات . ولما قَفَل راجعا إلى مكة ، لاقته سرِيَّة من سَرايا الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأصابوا ما معه ، وفَرَّ هو بنفسه ، ودخل المدينة ليلًا خائفا يترقب .

مضى الصهرُ الكريمُ ، يجوب طرقاتِ المدينة في توجس ، حتى وقع بصره على غايته ، واستدل على دار حبيبته ، فسارع إليها يسبقه قلبُه ليطرق الباب . وتؤَمِّنه الزوجةُ الوفيةُ الكريمة وتجيره . حتى إذا كانت صلاة الفجر ، وقد كبّر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ومن ورائه المسلمون ، صاحت السـيدة زينب مــــن بين صفوف النساء : “أيها الناس ، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع” . فلما سلّم الحبيبُ المصطفى صلى الله عليه وسلم ، من الصلاة ، قال : “أيها الناس ، هل سمعتم ما سمعت ؟ والذي نفس محمد بيده ، ما عَلِمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم!” . ثم أردف : “إنه يجير على المسلمينَ أدناهم ، وقد أجرنا مَنْ أجرتِ يا زينب” . ثم ذهب الأب الحنون إلى بيت كريمته الوفية ، وقال لهــــــا : ” أكرمي مثواه يـــا بنية ، ولا يَخلصَنّ إليك ، فإنك لا تَحلّين له ” .

ثم قام المصطفى عليه أكرم الصلاة وأتم التسليم ، فجمع أفراد السرية التي أسَرَتْ أبا العاص ، وقال لهم في رفق القائد الذي ما بَرِحَ حبُّ أصحابه له يملك عليهم لُبَّهَم : “إنّ هذا الرجل منّا حيثُ علمتم ، وقد أصبتم له مالًا ، فإن تحسـنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك ، وإن أبيتم فهو فَيْءُ الله الذي أفـاء عليكم فأنتم أحق به ” . وقد كان يكفي تلك الصحبةَ الكريمة أن يعلموا من رسولهم محبته لشيء ليعجَلوا إليه مسابقين ، فقالوا رضوان الله عليهم أجمعين : ” بل نردّه عليه يا رسول الله حبًا وكرامة ” .

وبعد أن رُدّتْ إلى أبي العاص حمولةُ قافلتِه ، شرع يجهز نفسه للرحيل ، فقال له بعض المسلمين : “هل لك في أن تُسْلِم وتأخذ الأموال لك فإنها أموال مشركين؟” ، فرد بكلامِ شريفٍ جديرٍ بأن يكون صِهرَ المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وابنَ أختِ الطاهرة الطيبة السيدة خديجة رضي الله عنها ، وزوجَ العقيلة الكريمة المَحْتِد ، قال : “بئسَ ما أبدأ به إسلاميaa0bdf7d5574f30212d698eb43531465 أن أخون أمانتي” .

ثم يعود أبو العاص بن الربيع إلى مكة . حتى إذا رد الأمانات إلى أهلها ، نادى فيهم : “يا معـشر قريش ، هل بقي لأحد منكم عندي شيء ؟” ، قالوا : “لا ، فجزاك الله خيرًا ، فقد وجدناك وفيًا كريمًا” . فصدع فيهم : ” فأنا أشهد ألا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله . والله ما منعني من الإسلام عند رسول الله إلا أن تظنوا أنّي إنما أردتُ أن آكل أموالكم ، فلما أدّاها الله إليكم ، وفرَغتُ منها أسلمتُ” . ثم مضى يطوي المسافات طيًا إلى مليكةِ قلبه ، زوجته المصون السيدة زينب رضي الله عنها .

وأخيرًا كان اللقاء المنتظر بعد طول بَيْنٍ ، وما زاد الفراقُ حبَّهما إلا حرارةً وتأججًا ، وما زاد اللقاءُ قلبيْهما إلا التحامًا وتماسكًا . فليهنِك هذا البيت المبارك بأكرم عقيلة وأشرف صهر ما وجد إلى الهناءة سبيلًا ، وليتقلب في أعطاف الرحمة النبوية ما استطاع ، وليتزود الحبيبان من الأنس ما شاء الله لهما ، فإن لوعة الفراق الثاني بعد بهجة اللقاء الثاني لقريبة .

قضى الحبيبان عامًا واحدًا ينعمَان بظِلال الأنس والبهجة ، بعد اجتماع الشمل المبارك الذي التحم بعد طول تصدُّع . ولكن أنامل الفراق عادت لتحبك جدائلها في جَنَبات الروضة الغناء . وتُوفيت الحبيبة الكريمة في أول السنة الثامنة للهجرة ، وقد انتثر من أوراق عمرها المبارك واحد وثلاثون ورقة . وأكَبَّ الزوجُ الملتاعُ على رفيقة الدرب يبكيها بعينيه وقلبه ، وراح يناجي الجسد المسجى في حُرقة ، حتى أبكى من حوله . وبكى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وســلم ابنته ، ثم صلوا عليها في المسجد النبوي ، وشيعتها قلوبٌ مُثقلة بألم الفراق إلى مهجعها الأخير .

عاد أبو العاص يجر رجليه جرًا إلى منزلٍ كان منذ سويعات أحبَّ بِقاع الأرض إلى نفسه ، فغدا الآن أوحشها . وكيف يأنس بدار أقفَرتْ من حبيبة هي أكرم حبيبة ، وعَقِيلة هي أوفى عقيلة؟

ثم بعد سـنوات أربع ، كُتب للحبيبين اللقاءُ الذي لا فراق بعده ، في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، في السنة الثانية عشرة للهجرة . إذْ تطلع أبو العاص وهو على فراش الموت فتراءى له طيف زوجته الحبيبة كما عَهِده دوما ، وشعر كما لو أن أناملها تلامسُ أنامله تستعجله المجيء ، فرنا إلى ذلك الطيف الحبيب بحنين ارّقه طول اشتياق ، وافْـترَّ ثَغْرُهُ عن ابتسامة رضًا واطمئنان ، ولسـان حاله يقول : سوف ألقى الحبيبة إن شاء الله !

ذلكم الحب الصادق .
ذلكم الوفاء ، نِعم الوفاء .

14252270965431

اكتب تعليقا

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑